تكثر الاتهامات الموجهة للبطريركية اليونانية الأرثدوكسية في فلسطين بقيادة سمسرة وصفقات مشبوهة سرية، تعقدها مع المستوطنين حول الأراضي والأوقاف المسؤولة عنها، سواء في الضفة الغربية أو القدس أو الأراضي المحتلة عام الـ 48، وتتجدد مع هذه الاتهامات، المطالبات بتعريب الكنيسة في فلسطين؛ وتحويل إدارتها للعرب بدلًا من اليونان.
مصطلح "تعريب الكنيسة"، وهو قديم ومستحدث، يعتمد في الأساس على نقل الملكية والإشراف الديني والتصرف بكل الكنائس الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية إلى العرب، ليصبحوا أصحاب الحق فيها، والتحكم بكل ما تملك الكنائس من أراضٍ ومبانٍ ومؤسسات تُشرف عليها.
فهل تعريب الكنيسة هو الحل لوقف هذا التعاون المشبوه والمزعوم؟ وهل مصطلح التعريب واقعي أصلاً؟ وإن كان كذلك، فلماذا ظلت المطالبات بتحقيقه مجرد نداءات في الهواء؟
"تعريب الكنيسة" يعني نقل الملكية والإشراف الديني والتصرف بكل الكنائس الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية إلى العرب
يُبين الباحث المتخصص في تاريخ أوقاف الكنيسة عدي بجالي، أنه منذ نحو 500 عام، وتحديدًا عام 1534، استدعى السلطان العثماني، بطريركَ المدينة المقدسة عطا الله الثاني، إلى القسطنطينية، ومنعه من العودة إلى القدس، وعيّن بدلًا منه المطران جرمانوس اليوناني؛ ليصبح بطريرك المدينة المقدسة وسائر أعمال فلسطين والأردن، ويبدأ معها فصل السيطرة اليونانية والخلاف بين أبناء الكنيسة الأرثوذكسية العرب وبين البطريركية اليونانية.
اقرأ/ي أيضًا: هل باعت البطريركية الأرثوذوكسية منطقة ميدان الساعة في يافا؟
ووفق دراسة بعنوان "القضية الوطنية الأرثوذكسية"، أجراها الباحث أليف صباغ، فإنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بلغت مساحة الأراضي التي باعتها الكنيسة في الفترة 1921-1925، حوالي 1120 دونمًا داخل حدود القدس، وأكثر من 22 ألف دونم خارج حدود القدس، وقد كان للحركة الصهيونية أكبر قدر من الصفقات، إذ عقدت شركة الاستيطان اليهودي 64 صفقة مع البطريركية اليونانية؛ من أصل 165 صفقة وقعتها البطريركية اليونانية في تلك الفترة مع جهات مختلفة.
وظهرت حركة تسريب الأراضي في قضية أخرى عام 2004، تتعلق بمصادقة المحكمة المركزية الإسرائيلية على تملَّك ثلاث شركات مرتبطة بالجمعية الاستيطانية "عطيرت كوهانيم" لحقوق قانونية خاصة بثلاثة عقارات كبيرة تقع قرب باب الخليل في البلدة القديمة بالقدس، إذ أدت إلى إقالة البطريرك السابق أرينوس، بالرغم من إنكاره للتهمة، وتوجيه الاتهام لوكيله باباذيموس بعقد صفقات دون علمه، وقد تم تنصيب ثيوفيلوس الثالث مكانه.
وبرزت خلال السنوات الأخيرة عدة قضايا حول تسريب الأراضي للاحتلال، كانت من أبرزها صفقاتٌ باعت بموجبها البطريركية اليونانية الأرثوذوكسية أراضٍ في منطقة الساعة بمدينة يافا؛ وقرب البلدة القديمة في قيساريا بالداخل الفلسطيني المُحتل، مقابل 2.5 مليون شيقل، لشركة "Bona trading" المُسجّلة في دولة "سانت فينيست والغرينادين" الواقعة في الجزر الكاريبية، وذلك بحسب ما كشفت صحيفة "كلكليست" العبريّة.
ثيوفيلوس الثالث، الذي صدرت بحقه في تشرين الأول/أكتوبر 2017 توصية من المؤتمر الوطني لدعم القضية العربية الأرثوذكسية بعزله، تلقى كل زياراته لفلسطين رفضًا جماهيريًا واسعًا بسبب ارتباط اسمه بعدد من الصفقات المشبوهة لتسريب أوقاف تابعة للكنيسة إلى الاحتلال الإسرائيلي.
ومع هذا كله تبقى الكنيسة غير عربية، ويُحرّم على الفلسطينيين والعرب إدارة كنيستهم بأنفسهم إلا بالرجوع لبطريركية يونانية؟ ويجبرون على التعامل مع وصايتها، ولا يُعرف عنها سوى اضطلاعها بالفساد المثبت في بعضه، والشائع في كثيره الذي يبدو أنه كبير ويصل لمستويات عالية، إذ لم يتم حتى طرح موضوع تعريب الكنيسة بشكل جدي من قبل المسؤولين نهائيًا.
تحدثنا مع عدد من الشخصيات الفلسطينية المسيحية البارزة، حول موضوع تعريب الكنيسة، وكيف يؤثر وضعها الحالي على الحالة الوطنية، ولماذا لم يتم المضي في عملية التعريب؟
يؤكد راعي العالم المسيحي في منظمة التحرير الأب مانويل مسلم، أن "الكنيسة ليست عربية ولا يونانية ولا رومانية ولا جنسية لها، إنما هي جماعة المؤمنين بحقيقة المسيح وإنجيله ولذلك فهي شعب مسيحي ولا فرق بين أعضائه، وكلهم متساوون في الحقوق والواجبات".
ويقول مسلم لـ الترا فلسطين إن القضية في فلسطين ليست قضية يوناني أو عربي، وإنما هي قضية وجود قائد أمين لكنيسته وأوقافها وليس خائنًا لها، مبينًا أن الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين "كنيسة عظيمة فاعلة، وإن كان قادتها حاليـًا قد باعوا أوقافها حقـًا، فقد خانوا كنيستهم وشعبهم وأرضهم، والكنيسة الأرثوذكسية تبحث عن قائد أمين على الوديعة الروحية والمادية".
الأب مانويل مسلم: الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين تبحث عن قائد أمين على الوديعة الروحية والمادية
وعن أسباب عدم التعريب، يوضح مسلم أن النظام الكهنوتي "الإكليروس" العربي الأرثوذكسي في فلسطين حاليًا "غير مهيأ لإدارة شؤون الكنيسة دينيًا وعلميًا"، كما أن الكنيسة تشترط أن يكون قائدها عازبًا "الأسقف أو المطران" وعدد هؤلاء من العرب محدود جدًا، "لذلك فالتفكير بقيادة عربية للكنيسة يلزمه إعداد ديني وعلمي على مدى سنوات طويلة".
اقرأ/ي أيضًا: القدس: الكنيسة اليونانية خفضت أسعار العقارات للمستوطنين
ويطالب مسلم بتدخل عاجل من الرئيس محمود عباس والعاهل الأردني عبد الله الثاني "يتوخى الحذر والدقة والتمحيص قبل الموافقة على المسؤول إذا لهم الحق في ذلك"، كما يدعوهما إلى "جلاء الحقيقة ووضوحها واتخاذ القرار المناسب لمنع تسرب الأوقاف المسيحية إلى أيدي أعداء الفلسطينيين، إضافة لخلق وزارة الأوقاف الإسلامية المسيحية، ليكون لها عين ثاقبة حول التصرف بأوقاف المسيحيين".
ويضيف أن الأوقاف في كثير من الأحيان كانت تحت سيطرة "رجال الدين الغرباء الذين عمدوا بوعي وبغير وعي لبيع الأراضي للاحتلال"، إما لتغطية حاجتهم الشخصية وإما بسبب خروجهم من البلاد، كما حدث مع الأوقاف الأرثوذكسية والرهبان الأجانب من الكنيسة الكاثوليكية، أو الكنائس البروتستنتية.
أوقاف الكنيسة الأرثوذوكسية مسجلة بأسماء "رؤساء الدين الأجانب"، وقد استغلوا مراكزهم وحقهم لبيعها وتسريبها لـ إسرائيل
ويعلل مسلم سبب ذلك بأن تلك الأوقاف مسجلة في "طابو" بأسماء رؤساء الدين الأجانب، إضافة إلى وظيفتهم وسلطتهم، فقد استغلوا مركزهم وحقهم لبيعها وتسريبها لإسرائيل.
أما الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات حنا عيسى، فيرجع عدم طرح التعريب نهائيًا على أي مستوى رسمي لأن الأراضي والأوقاف المسيحية مسجلة باسم اليونان، ولأن الوصاية عليها أردنية بناء على اتفاق "الوصاية والسيادة" المبرم في شهر أيار/مايو 2013، الذي ينظم العلاقة مع البطريركية.
ويؤكد عيسى لـ الترا فلسطين أن استمرار وجود الاحتلال الإسرائيلي يُنتج العديد من الضغوط على الكنيسة العربية، إذ تصبح أملاكها مكشوفة أمام رغبة الاحتلال في المصادرة والتهويد، إضافة لعدم وجود العدد الكافي من الكهنة لاستيعاب التعريب.
وعن قضايا تسريب الأراضي وبيعها للاحتلال، يقول عيسى: "نحن نتعامل بالبينة والدليل والأمور الرسمية، وبناء على ذلك نتحرك، وهذا بما يتعلق بالأراضي المحتلة 1967"، مؤكدًا أن الموقف الرسمي هو "رفض بيع أو تأجير أو تسريب الأراضي الوقفية للاحتلال".
تحدثنا مع شخصية دينية ثالثة، في هذه القضية، فأضاف سببًا آخر غير ما ذُكر سابقًا، فهو يرى أن "السبب في المقام الأول يعود لعدم رغبة السلطة الفلسطينية في خلق إشكاليات وإغضاب أطراف دولية قوية عديدة"، إذ أن الكنائس في فلسطين لا تخضع لليونان فقط، إنما لروسيا وأميركا وأرمينا واللاتين وغيرهم.
مصدر ديني مسيحي: عدم تعريب الكنيسة الأرثوذوكسية في فلسطين سببه عدم رغبة السلطة الفلسطينية في إغضاب أطراف دولية
وأكدت الشخصية التي فضلت عدم الكشف عن اسمها، أن الموضوع له أبعاد سياسية كثيرة، تتعلق بدعم السلطة ماليًا ومعنويًا، سواء في داخل فلسطين أو خارجها، وأن مجرد طرح ملف تعريب الكنيسة على هذه الدول يعني "باي باي لندن" وفق تعبيره.
يشار إلى أن البطريرك ثيوفولوس واجه احتجاجات قوية خلال زيارته إلى بيت لحم، تزامنًا مع احتفالات عيد الميلاد بداية عام 2018، وقد تعرض خلال ذلك لهتافات كان منها "كنيستنا حرة حرة، والخاين برا برا"، كما تعرضت سيارته للرشق بالأحذية والبيض، إلا أن الحماية التي وفرتها الأجهزة الأمنية أتاحت له متابعة الزيارة.
اقرأ/ي أيضًا:
فلسطينيون لـ السلطة: ارفعوا حمايتكم عن الخائن