ذات صباح بارد من صباحات القدس الغابرة الكثيرة، التي لم يدوِّنها التاريخ، في علية حجرية صغيرة، فتح كنعاني شاب عينيه بتعب يكاد يُسمع صوته. استرجع وعيه ببطئ بعد ليلة دموع لم يعرف بالضبط كم دامت، وتحسس البرد على شفتيه، فشعر بالوحدة تقبلّه لأول مرة منذ أشهر.
"كل ما تصنعون سدى، فنحن لم نزل نحب، ولم يزل يوجعنا الحب.."
قام بصعوبة ومشى نحو النافذة الصغيرة في الحائط الحجري، ثم وقف، ونظر خارجًا. تفرّس طويلًا بوجه الصباح الرمادي، وكاد يسمع صوت حجارة المدينة تبكي، عندما أحسّ بوجع قديم يلسع قلبه. أغمض جفنيه وشدّ قبضته على عنق قميصه المبلل حتى ارتجفت يده، فيما هربت دمعة عبر خدِّه وهو يتذكر ابتسامة تلك الجليليّة.
أرخى قبضته وهي ترتجف ما تزال، وفتح عينيه من جديد على صوت حديد وقرع حوافر في الشارع أسفل منه. كان المشهد كله شاحبًا: وجه الضابط الروماني بلا ملامح، حصانه الذي بلا لون، خطى الجنود خلفه، تجرّ نفسها بلا حياة.. كل شيء كان شاحبًا كالموت، كل شيء، إلا الجسد المكبّل بالسلاسل الذي كان يتوسطهم، يشعّ شغفًا وألمًا وهو يسير إلى محكمة ما، سيعود منها عصرًا حاملًا خشبة حتفه.
مسح الكنعاني الشاب أثر فرار الدمع عن خدِّه، وأنصت لقلبه يسارع الخفقان. راح يتنفس بسرعة فيما كانت الكلمات تقفز إلى ذهنه دون وعي منه، كأنما يلقى الوحي، فاستدار وركض إلى المنضدة الخشبية الصغيرة في الزاوية. أخذ صفحة من جلد الماعز وقلمًا، وراح يكتب..
ذات صباح آخر من صباحات الريف الفلسطيني الكثيرة التي لم يدوِّنها التاريخ، في زاوية بيت حجري صغير، كانت فتاة فلّاحة تنظر عبر نافذة صغيرة إلى وجه الصباح الرمادي، وهي تتحسس البرد على شفتيها، والوحدة تذكرها بمرارة قبلتها.
شعرت بلسعة الوجع القديمة في قلبها، ورأت أسقف القرية تبكي وهي تتذكر ابتسامة ذلك الفلاح.. شدّت قبضتها على عنق ثوبها حتى الارتجاف، فيما هربت دمعة من جفنيها المغمضتين، ثم فتحتهما على صوت قرع البساطير في الزقاق المقابل.
كان كل شيء شاحبًا: وجه الضابط الانكليزي الجاف مثل لوزة ميتة، بلا ملامح، بدلته التي بلا لون، خطى الجند تكرر نفسها بلا روح، كأنها أشباح… كل شيء كان شاحبًا، إلا الجسد المكبّل بالحبال، ينبض بالعنفوان وهو يصعد ظهر شاحنة ستأخذه إلى زنزانة ما، سيخرج منها بعد أيام إلى منصّة شنقه.
أرخت قبضتها عن عنق ثوبها، فيما راح قلبها يدق كساعة فقدت صوابها وهي ترى الكلمات تقفز إلى ذهنها، كمن مسّها وحي. استدارت، وركضت إلى "طاقة اللحف" في الزاوية المقابلة. أخرجت بعصبية كراسًا وقلما، ثم رمت نفسها على "الحصيرة"، وراحت تكتب..
ذات صباح آخر غير بعيد من صباحات رام الله الكثيرة، التي لن يدوِّنها التاريخ، كان فلسطيني شاب دون اسم، طالب أو عامل أو عاطل عن العمل، يبحث عن سبب لينهض من فراشه، وهو يحسّ قبلة الوحدة الباردة على شفتيه. شدّ قبضته على عنق كنزته الصوفيه حتى الارتجاف، وأجهش بصوت يختنق فيما هربت دمعة من تحت جفنه، ثم شعر بالوجع يلسع قلبه، وهو يتذكر ابتسامة تلك الفلسطينية، التي بلا اسم مثله.
أرخى قبضته المرتجفة ورفع شاشة الهاتف المستطيلة إلى وجهه. ترك أثر الدمع على وجهه يجف لوحده فيما راح يسحب أصابعه على الشاشة من أسفل لأعلى، قبل أن يتوقف عند فيديو لمشهد، كل شيء فيه شاحبًا كالموت: اسمنت الأسقف فوق زقاق المخيم، رمادي مثل وجه الصباح خارج النافذة، الأسلاك المتقاطعة في الهواء أمام عدسة الكاميرا، كبقايا جثث رمتها الريح هناك، وجه الضابط الصهيوني المتجمّد كوجه شبح بلا ملامح، حركة الجنود كالآلات الميتة.. كل شيء شاحب، إلّا الجسد المكبل بالمربط البلاستيكي، يُدفع دفعًا إلى جوف العربة العسكرية التي ستأخذه إلى قبو تحقيق ما.
أدار وجهه نحو النافذة، فرأى في الأفق أضواء المستوطنة تحدِّق بصمت من خلف الضباب. أزاح بقايا الدمع عن عينيه وهو يرى الكلمات تقفز إلى ذهنه، بينما راح قلبه يسارع الخفقان، كأنما اقتحم عزلته الوحي. رمى الغطاء عن نفسه بسرعة ونهض، ثم جلس مستقيمًا على حافة السرير. أخذ الهاتف بيديه، فتح لوحة المفاتيح في الشاشة، وراح يكتب..
"اصنعوا ما شئتم"، خطّت يد الكنعاني الشاب على جلد الماعز. "فكل ما تصنعونه سدى…" تابع الخطّ وهو يضغط القلم على الجلد حتى كاد يثقبه.
"كل ما تصنعون سدى، فنحن لم نزل نحب، ولم يزل يوجعنا الحب…"، خطّت الفلاحة الفتاة في كراستها. "يوجعنا كما يوجع الحنّون قلب الأرض حين ينبت"، رسمت يدها كل حرف كأنها تنحته نحتًا، حتى بدأ رأس القلم يتفتت على وجه الكرّاس.
"اصنعوا ما شئتم، فإننا نحمل في قلوبنا عالمًا جديدًا…"، كانت أصابع الفلسطيني الذي بلا اسم تطرق الأحرف على شاشة الهاتف، كما لو كان يريد أن يكسرها… "وهذا العالم، ينبت كالحنّون، في هذه اللحظة!".
ضغط زر النشر، ورمى الهاتف..