04-نوفمبر-2017

تصوير علي جاد الله - (Getty)

يكتب حسين البرغوثي، عن العودة إلى البدايات، نافيًا إمكانيّة العودة إلّا إذا كانت أصيلة ذاتيّة: "لا يعودُ أحدٌ إلى أوّلة ولو لمامًا، إلّا إن عاد إلى تاريخه، إلى نفسه في تاريخه..". وفي مكانٍ آخر، يكتبُ عن الخسارة، الخسارة الوجوديّة الهائلة: "قلتُ لنفسي، أن تمرّ على سطح الأرض، ولا تغيّر شيئًا، أو تترك أثرًا، خسارة يا ابن هذا الإرث العظيم! خسارة أن تولد وتموت في زمن مهزوم، بوعي مهزوم، وخائف، وحتى اسم ابنك، آثر، حسبوه آرثر، اسمًا غريبًا، اسم من من استعمروك، ولم يخطر ببال أحد أنه من لسان العرب! خسارة أن تفقد نفسك إلى هذا الحد".

أمام أسوار القدس، وبعد حرب حزيران، حرب الأيّام الستة، الهزيمة الأبديّة، ولحظة التأسيس الحقيقيّة للكيان الصهيوني، وقف قادة الجيش الصهيوني، على رأسهم موشيه دايّان، ينظرون من عَلٍ، والكاميرا تلتقطُ ذلك السموُّ الهائل للتاريخ متجسّدًا في أسوار القُدس، وتلتقطُ من وراء المشهد، صورة الهزيمة الأبديّة، وصوت اللغة الصامتة، الممزقة، المشرّدة خلف الأسوار، والتي اختبأت في عظامنا وسكنت هناك، وسكنت في الحجارة الخرساء. ويحدث أن نتوه في البحث، عن لحظة التأسيس الأولى، لحظة الانكسار الأولى، أهيَ لحظةُ الوعد، أم لحظةُ النُّطق بهِ، كتابتهُ، أم لحظةُ دخول الجنرال اللمبي مدينة القدس؟ كثيرة هي اللحظات، كثيرةٌ جدًا، حتى ما عادَ الزَّمن غير تتابع هذه اللحظات في متوالية هندسيّة متكسّرة من السقوط المتوالي، من الإنجراف إلى بئر عميقٍ من صمت اللغة، من عزلتها، في غياهبِ العجز عن مجاراة واقعٍ غير معقول، واقع يستحيل على الفهم، ويستعصي على التفسير المنطقيّ.

 ربما، كان الانتصارُ الأزليُّ للغة المستعمرْ، أن جعلَنا شعوبًا وقبائلَ تتنازعُ مكانَة الضحيّة، ونعيد قراءة التاريخ كما يقرأه هو

ربما، كان الانتصارُ الأزليُّ للغة المستعمرْ، أن جعلَنا شعوبًا وقبائلَ تتنازعُ مكانَة الضحيّة، ونتسابق مكانة ما بعد الضحيّة. وربما كان أيضًا انتصاره، أن جعلنا نعيد قراءة التاريخ، كما يقرأه هو، كما ألَّفهُ هو بعناية المنتصر الأزليّ، بعناية اللغة الغربية العقلانية التي ترى في الزّمن خطًا مستقيمًا يستعصي على التراجع، ولا يقبل التفاصيل الكثيفة للحظة زمانية، تلك التي يؤرشِفُها، يوثِّقها، يختزلُها في سطورٍ نلاحقها نحنُ بوصفها معنى، بوصفها الحقيقة المطلقة، لا نبحثُ في تفاصيلِ امتداداتها، في تشعُّباتِ لغتها، هذه اللغة المنطقيّة الآليّة الثقيلة، التي امتدّت هيمنتُها، من سواحلِ الأطلسيّ، وحتى سواحلِ الهنديّ، وسواحلِ الهادئِ، غطّت، أنفاسُها النتنة، التي تحجب صرخات المستعبدين، من نقطة صغيرة في سواحلِ أفريقيا، بابًا ضيِّقًا يصدَّرُ منه العبيد إلى بلاد العالم الجديد، وحتى الصرخات المكتومة، لسكان العالم الجديد.

مئة عامٍ هي لحظة زمنية واحدة، مئة عام هي لحظة أزلية.

"بوعيٍ مهزوم"، يطلبُ الاعتذار من جلّادٍ مقدّس واحد. إنه من غير الممكن، لغويًا، أن تطلبَ ممَّن صاغَ لغة الحداثة والقومية والزمن المستقيم، الاعتذار عمّا صنعته هذه الحداثة والقومية والزمن المستقيم. كان هناك زمنٌ كان فيه الاستعمار، مهمّة حضارية عظمى، شخوصها هُم أبطالُ قوميّة منتصرة ومتفوّقة، مجرموها هم محاربون شجعان، ولذا، فإن الإمبراطورية اليوم، تمجِّد إذ تمجّد الوعد، هؤلاء الأبطال، تفخرُ إذ تفخر، بهؤلاء المحاربين، وما تزال تعترف باستقامة الزمن، وما تزال لا تؤمنُ إلّا بالدولة، التي حتى وإن كانت قد أقيمت على أشلاء السكان الأصليين أينما كانوا في الجنوب وفي الشمال، فإنها هي درّة التاج الاستعماريّ. ووعينا المهزوم، ما زال يحاول تارة الدخول إلى عالم الحداثة الغربية، عالم الدول والأمم، بوعي خائف، يطلبُ القبول حينًا، ويطلبُ الاعتذار حينًا آخر.

مئة عام، هي لحظة شموليّة.

عن لغةٍ لا تقبلُ الحداثة

في إحدى خطاباته الشهيرة، يقول رسل مينز، إن ثمة روح في اللغة الهندية المحكيّة، لا توجد في اللغة المكتوبة الاستعمارية. لغة الهنديّ الأحمر، لغة لا تقبل الحداثة، تترفّع عنها، وتسمو عن أغراضها المادية الاستغلالية للأرض والإنسان. في هذه اللغة وحسب، يوجد وعيٌ غير مهزوم، غير خائف. لغةٌ مؤلّفة من هكذا وعي، لا تطلب الاعتذار. هي اللغة التي يكتبُ فيها درويش: "أقول لمن يراني عبر منظارٍ على برج الحراسة: لا أراك، ولا أراك/ أرى مكاني كلّه حولي/ أراني في المكان بكلّ أعضائي وأسمائي/ أرى شجر النخيل ينقّح الفصحى من الأخطاء في لغتي/ أرى عادات زهر اللوز في تدريب أغنيتي على فرحٍ فجائيّ/ أرى أثري وأتبعه/ أرى ظلّي وأرفعه من الوادي بملقط شعر كنعانيّةٍ ثكلى/ أرى ما لا يُرى من جاذبيّة ما يسيل من الجمال الكامل المتكامل الكلّيّ في أبد التلال/ ولا أرى قنّاصتي".

اقرأ/ي أيضًا: كيف حصلت الصهيونية على وعد بلفور؟ رواية إسرائيلية

ثمّة لغة تؤلِّفُ وعيًا باللحظاتِ التاريخية، يختلفُ عن وعيِ من يلبسُ قِناعَ البيض. لغةٌ تقودُ في اللحظات التاريخيّة الكبرى، إلى إعادة تمثيل التاريخ، بواقعٍ غير مستلبٍ حتى ولو للحظات. إعادة تمثيلٍ عنيفة، جذريّة، راديكاليّة ومتطرّفة في رَفضها لمنطقِ الامبراطورية.

هذه لغة لا تنتمي لواقعِ ما بعد أوسلو الفلسطيني. الواقع المستلب سياسيًا وتاريخيًا وقانونيًا، حيث يسود فيه خطابُ الحداثة، مجرّدًا من أدوات هذه الحداثة، إذ ليس هناك من أمّة يمثِّلها هذا الخطاب، وليس هناك من دولة يمثّلها هذا الخطاب، وليس هناك من عقلانيّة يمثّلها هذا الخطاب.

في هذا الخطاب، تستمرُّ عزلة اللغة المئويّة، حيثُ الاحتلالُ، بديلُ الاستعمار، والمستوطنة، بديلُ المستعمرة، ويبني الخطاب نفسه، على أنّه خطابُ ما بعد لحظة الاستقلال، ويخاطبُ الآخر الغربي، بوصفه عضوًا من مجتمع الحداثة العصريّ، مجتمع الدول المتحضّرة والمتقدّمة، ويرى في الزّمن خطاً مستقيمًا يستحيلُ على العودة. ولأنه يرى في الزمن خطاً مستقيمًا، لا يفكِّرُ بطريقةٍ أصوليّة في تلك اللحظات التاريخيّة المؤسِّسة لواقع المستعبَدين اليوم، بل يفكِّر بها، على أنّها أخطاءٌ تاريخيّة ويجبُ الاعتذار عنها، فيطلبُ الاعتذار ممن يرى فيها أساسًا، أي الآخر الغربي البريطاني، عبئًا حضاريًا قام بهِ واستراح إلى الأبدْ.

في الذكرى المئويّة لوعد بلفور، علينا أن نعود إلى أصولنا الأولى، حيثُ "الأرضُ تورَثُ كاللغة"

في الذكرى المئويّة للوعد، علينا أن نعود إلى أصولنا الأولى، حيثُ "الأرضُ تورَثُ كاللغة". يخاطبُ أميركيٌ أصلانيّ، صديقًا فلسطينيًا: "جلّادُنا المقدّس واحدْ.."، وأظل أتذكر هذه الكلمات، بصورة غريبة.

أعرف أنّ كل شيءٍ تغيّر منذ "حلّت اللعنة البيضاء على هذي الأرض". الزمن تغيّر، الوقت تغيّر، الأرضُ تغيّرت، السّماء، الأفكار، اللغة، الأجساد، وحتى دخان الليل الفاسد تغيّر. كان هنالك زمنٌ، حيث الزمن امتدادٌ للأرض وامتدادٌ للوقت وامتدادٌ للسماء، وفيها كلّها تتجسّد الأفكار. "زمنٌ أبيض!"، قبل الحداثة بقليل، ولو أنّا أمسكنا بخيوط حداثتنا الأولى، لتغيّر كل شيء، إلّا أنّا سقطنا في "استقامة الزمن الغربيّ"، وسقطت لغتنا في "فخِّ المنطقِ الأوروبيّ في التفكير"، ولم يكن هنالك من لغة محكيّة تحميها، وتحتفظُ لها بجدارتها وأصلانيّتها في مواجهة اللغة المنتصرة. وكان يجب أن يكون، ولم يكن.

والزمن الأبيض، حيثُ لا تفرضُ لغة المستعمِر على المستعمَرْ، ثنائيّة العقل والطّبيعة، وثنائيّة الجماعة الحرّة الأصلانيّة في مواجهة أمّة المواطنة الأوروبيّة في شكلِها الأوروبيّ الغربيّ. الآن، على أرض فلسطين، ومنذُ حلّت لعنة اللغة البيضاء، هويّتانِ، في لغتينِ، واحدة تقبعُ في عزلة الجدارِ، مقموعة تحت ثقلِ خطابِ الحداثة الغربيّة، لا هِيَ شرقيّة ولا غَربيّة، وأخرى، تستمدُّ ذاتها من هيمنة اللغة البيضاء، لغة خطاب الحداثة الغربيّة، لكنّها هي الأخرى، لا شرقيّة ولا غربيّة، وبين هذي وتلك، يبقى الوعدُ ورقة رسميّة تافهة، ولا تمثِّلُ ذكراه، سوى محطّة واحدة صغيرة في تاريخٍ حافلٍ بوعود اللغة البيضاء بالعالم الجديد. 


اقرأ/ي أيضًا: 

فيديو | إسرائيل فخورة بإقامة إسرائيل ولن تعتذر 

لجوء عاطفي إلى البلاد

مكالمة فائتة من البلاد