23-نوفمبر-2018

فشلت "إسرائيل" في تحقيق أهدافها العسكرية في حرب تموز 2006 مع حزب الله اللبناني، فلجأت إلى سياسة الدمار الكثيف وخاصّة في الضاحية الجنوبية، وذلك في محاولة لإبقاء مشاهد الدمار عالقة في الذاكرة، بدل مشاهد الفشل والهزيمة الإسرائيلية. 

كثيرون كتبوا وتحدّثوا عن أبعاد تلك الحرب، منهم المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، والذي أعاد طرح أقوال رئيس أوّل حكومة لإسرائيل؛ دافيد بن غوريون، أثناء لقائه مع جنوده بعد إقامة "إسرائيل"، حين قال لهم "إنّ إسرائيل دخلت حربًا لن تنتهي، وعليهم  الاستعداد الدائم وعدم الاسترخاء".

    تعتبر العقيدة الصهيونية أنّ الهزيمة مقدّمة لانهيار إسرائيل    

اعتبر بن غوريون أنّ العرب والفلسطينيين لن يسلّموا ببقاء "إسرائيل"، وحذّر من خطر مستقبلي تخرج فيه قوى عربية مستعدة لقتال إسرائيل. "الخطر الوجودي" بالنسبة لبنغوريون هو أن يمتلك الرافضون لبقاء إسرائيل، سلاحًا قويًا يساعد في هزيمتها وإزالتها عن الخارطة، لذلك حثّ جنوده دائمًا على اليقظة، وسعى لأن تمتلك إسرائيل أحدث الأسلحة؛ النووية أو التقليدية، ومنع وصول السلاح والمعرفة للعرب، بهدف إبقائهم ضعفاء، لضمان تفوّق "الدولة اليهودية" وسط "بحر من الأعداء". 

حوّلت الحركة الصهيونية خرافات الحقّ التاريخي لليهود في فلسطين، وما يسمى بـ "الوعد الإلهي" إلى مشروع سياسي أيديولوجي، واعتبرت القوة والعنف أداة مقدّسة لتحقيق أهداف هذا المشروع، وأصبح الجيش "البقرة المقدسة"، لقدسيّة دوره في تحقيق أهداف المشروع الصهيوني.

حُرّمت هزيمة الجيش وفق العقيدة العسكرية الصهيونية، وتجسّد ذلك بطرد وتطهير كل منطقة فلسطينية تقاوم  العصابات اليهودية، وجرى ارتكاب مجازر وتهجير ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، وتدمير قرابة 530 قرية فلسطينية. معالم هذه العقيد الصهيونيّة ظهرت أيضًا في العام 1967، حين وصف حاخامات الصهيونية هزيمة العرب بـ "النصر الإلهي"  وليس بقوة موشي دايان - العلمانيين - حسب وصفهم. 

وظهرت هذه العقيدة بشكل أوضح عام 2014، في المواجهة مع غزة، حين أمر قائد لواء "جفعاتي" في الجيش الإسرائيلي، المتطرّف عوفر فينتر، الذي يشغل حاليًا منصب السكرتير العسكري لوزير الجيش، حين أمر جنوده بالصلاة لله والدعاء لمحو اسم من وصفهم بـ "أعداء الله؛ الفلسطينيين الكفار"، وأعقب ذلك ارتكاب مجزرة الشجاعية باستشهاد  نحو مئة فلسطينيّ معظمهم من النساء والأطفال، خلال الساعات الأولى لمحاولة التقدم في الشجاعية.

ترى العقيدة الصهيونية في تقديس القوّة وتحريم الهزيمة، صمام الأمان لإسرائيل، إذ تعتبر أنّ الهزيمة ستؤدي لتوقّف  الهجرة اليهودية وزيادة الهجرة المعاكسة، خاصة أنّ الهجرة اليهودية تعتبر العمود الفقري للمشروع الصهيوني. 

وإذا كانت الهجرة تعتبر العمود الفقري للمشروع الصهيوني، فإنّ الجيش يعتبر العمود الفقري لإسرائيل، وانهيار ثقة الإسرائيليين بجيشهم ستؤدي إلى تراجع تأييدهم للحروب والحدّ من شهوتهم للقتل، لأنهم أصبحوا معرّضين  للقتل والإصابة أو الوقوع في الأسر، عدا عن أنّ الهزيمة ستؤدي لتراجع الدعم الدولي لإسرائيل، وبالتالي انهيار الاقتصاد،  استنادًا للقاعدة التي أرساها مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل، الذي اشترط بقاء إسرائيل بين أعدائها، بحصولها على دعم الغرب وعلى الأقل دعم دولة عظمى.

كان هرتسل يرى أنّ الغرب لن يدعم إسرائيل لسواد عيونها، إلا إذا كانت قوية، وأن حاجة تلك الدول تفرض عليها التحالف مع إسرائيل، واصفًا العالم بـ "المنافقين الذين يكرهون اليهود"، وقد انتشر هذا الانطباع بعد حرب 67، حيت اتّسعت المقاطعة الدولية لإسرائيل، وأصبحت الأغنية العبرية (كل العالم ضدّنا) الأكثر شهرة وسماعًا، ما يؤكد أن العنصرية وغطرسة القوة جزء رئيس من المبنى الفكري الأيديولوجي للحركة الصهيونية منذ نشأتها. 

ورغم تمسّك إسرائيل بالعقيدة الأمنية الصهيونية التي نصّت على ضرورة حرمان العرب من تحقيق أي انتصار، والاستمرار في إلحاق الهزيمة بهم وإعادتهم إلى وضع أسوأ مما كانوا عليه، وصولًا لتحقيق كيّ الوعي، ليتجنّبوا التفكير في مواجهة إسرائيل، إلّا أن العقود الثلاثة الأخيرة كشفت عن تصدع قوة إسرائيل، ونهاية مرحلة انتصاراتها، بعد أن تحقق ما حذّر منه بن غوريون قبل سبعة عقود، بظهور قوى وجماعات تمتلك عقيدة أقوى من عقيدة جيشه، ومستعدة للدفاع عن كرامتها أكثر من حرصهم  على الحياة. 

بدأت هذه التصدّعات في جدار إسرائيل بهروب جيشها من جنوب لبنان عام 2000، أثناء إمساك أيهود باراك بزمام السلطة، وهو الذي يهاجم نتنياهو اليوم ويصفه بـ "الفاشل الجبان"، متناسيًا أنه هرب من لبنان حتى دون مفاوضات مع حزب الله، تاركًا خلفه عتادًا عسكريًا كبيرًا. مرورًا بجبهة غزة التي تستمرّ بخوض المواجهة مع إسرائيل بين حين وآخر، كان آخرها جولة القتال التي استمرّت 40 ساعة قبل أيام. وهي الجولة التي تبشّر بمرحلة جديدة ستنعكس على كل الجبهات وأولها جبهة الضفة التي يشكّل الهدوء فيها سرّ نجاح المشروع الصهيوني، كما جبهة الشمال التي تشكل التحدي العسكري الأكبر أمام إسرائيل لقدراتها الكبيرة، ليتأكد بذلك فشل سياسة كيّ الوعي الفلسطيني، لا بل أن الوعي الإسرائيلي قد دخل هو مرحلة الكيّ، وأصبح الإسرائيلي يألم كما يألم الفلسطيني، ويدفع ثمنًا كما يدفعه الفلسطيني، وهذا ما أجبر نتنياهو المشبع بالغطرسة أن يعترف في كلمته الأخيرة بعد استقالة وزير جيشه أفيغدور ليبرمان، حين ردّ على الاستقالة وعلى الأصوات التي اتهمته بالاستسلام والضعف، أنّ إسرائيل في ذروة مواجهة مفتوحة، مطالبًا المجتمع اليهودي بالاستعداد لدفع ثمن باهظ في قادم الأيام.


اقرأ/ي أيضًا:

 المقاومة تُخضِعُ الدّولة

الفلسطينيون على “Netflix”.. الحلقة الثانية

حرمان الفلسطينين من الحج انتهاك للحريات الديني