09-يوليو-2019

"مُعلم الأسرى، دخل السجن قبل 33 سنة ولم يكن قد أنهى المرحلة الابتدائية من تعليمه، وها هو اليوم ينتظر الحصول على شهادة الماجستير (..) لا يمر من تحت يديه أسيرٌ إلا ويتعلم منه شيئًا" يقول سامر مُعرّفًا بوالده الأسير أحمد علي أبو جابر (61 عامًا) من بئر السبع وسكان كفر قاسم داخل الخط الأخضر، وهو أحد الأسرى القدامى المعتقلين قبل اتفاق أوسلو، حيث تم اعتقاله عام 1986.

الأسير أحمد أبو جابر عند اعتقاله لم يكن قد أنهى صف خامس ابتدائي، والآن ينتظر شهادة الماجستير

عندما اعتُقِل الأسير أبو جابر كان يبلغ من العمر (27 عامًا)، كان رجلًا بسيطًا عاديًا كما يحب أن يصف نفسه (وفقًا لأولاده). وهو الآن أبٌ لـ مايا (40 عامًا) جولان (39 عامًا) وسامر(33 عامًا) الذين تركهم خلفه أطفالًا وأصبحوا اليوم أُمًا وأبوين لأولاد لا يعرفون جدهم إلا من خلال الصور والرسائل التي تصلهم منه، مثلما لم يعرفه أولاده في طفولتهم إلا من خلف القضبان، بعد أن حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة مشاركته في عملية أسر جندي إسرائيلي وقتله.

الغائب الحاضر

"حين اعتقل والدي كان عمري 3 شهور، أو كما يحب أن يقول أن عمري كان شهرين وواحد عشرون يومًا، يقول دائمًا إن عمري من عمر اعتقاله، لم أعرف والدي إلا من خلف الزجاج، وعيت على الدنيا وأنا أراه خلف القضبان، وأول مرة لمست فيها يده وقبلتها كانت شِباك السجن بيننا (..) مستحيل أنسى تلك الأيام".

يخبرنا سامر أن علاقتهم بوالدهم قوية جدًا، ورغم اعتقاله إلا أنهم يستشيرونه في كل شيء في المنزل، وطوال حياتهم كانوا ينتظرون الزيارة لاستشارته والتحدث معه عن أيامهم ومشاكلهم، "في صغرنا عندما كنا نخطئ كانت أمي تهددنا بأبي أنها ستخبره ما فعلنا بالزيارة، لم نكن نفهم إلا أننا نخاف أن ينزعج فلا نخطئ".

اقرأ/ي أيضًا: الأسير فلنة.. شجرة شامخة في سجون الاحتلال

تحدثنا زوجته رايقة أنها منذ اعتقال أحمد لم تفوّت زيارته ولو لمرة واحد، حيث يمكن لأهالي الأسرى الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر زيارتهم مرة كل أسبوعين، "بالنسبة لي زيارته مقدسة لا يمكن أن أنسى موعد الزيارة مهما كان، كل مرة كنت أحمل نفسي وأولادي وأذهب، اليوم الأولاد انشغلوا ويذهبون كل فترة وأخرى أما أنا فأذهب كل زيارة".

هدية أحمد أبو جابر لزوجته

"دائمًا يوجد حديث جديد نحكيه، أخبار وقصص جديدة أحدثه عنها، أحيانًا يقول لي إنّي عينيه في الخارج (..) مرة ذهبت إلى حديقة البهائيين في حيفا وعندما أخبرته عن جمالها قال لي، صار عندي فضول أشوفها، رح أحطها على القائمة" تقول رايقة.

أما أحفاد أبو جابر فلم يتمكنوا من رؤيته يومًا إلا من خلال الصور، بسبب سياسة الاحتلال بمنع الزيارة إلا للأقارب من الدرجة الأولى، لكن علاقته بهم تشكّلت وأصبحت قوية من خلال الرسائل التي كانت ولا زالت تصلهم منه.

يطلب منهم دائمًا أن يكون صديقهم، وأن يكتبوا له كما يكتبون لأصدقائهم لا لجدهم، أن يخبروه بقصصهم المجنونة فيشاركهم الشوق عبر أشعاره الجميلة.

من رسائل أحمد أبو جابر لعائلته
من رسائل أحمد أبو جابر لعائلته

في إحدى رسائله قال: "بكل صدق، والديّ وزوجتي وأولادي وأحفادي، مهما قدمت في حياتي ومهما عشت وسأعيش، ومهما حاولت أن أقدم لهم، لن أعوضهم عن يوم واحد من الحرمان والحياة الصعبة التي عاشوها (..) كل ما أتمناه أن يجمعني القدر بوالديّ وهما على قيد الحياة، وأن استطيع أن أشكر زوجتي على التضحية والإخلاص والوفاء والقوة التي بذلتها لتربي أولادنا واليوم أرى نتاج تربيتها بعيونهم وعملهم وعائلاتهم الصغيرة".

الأسير أحمد أبو جابر مع والده
الأسير أحمد أبو جابر مع والده

خروج مؤقت

خلال 33 سنة من اعتقال أبو جابر، خرج من السجن ثلاث مرات في "زيارات متقطعة" قصيرة كانت أطولها لمدة 48 ساعة، وهذا الحق كانت تجيزه سابقًا سلطات الاحتلال للأسرى الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر حصرًا، لكنها لازالت تمنحه للسجناء الإسرائيليين كما حدث مع جنودٍ قتلوا فلسطينيين أمام عدسات الكاميرا. في خروجه الأول عام 2000 عندما كانت الأوضاع السياسية هادئة خلال المفاوضات بين السلطة والاحتلال، استطاعت عائلته استصدار مذكرة إذن تسمح له بالخروج لحضور حفل خطوبة ابنته مايا.

خرج الأسير أحمد أبو جابر من المعتقل لساعات لحضور خطوبة ابنته، وعند عودته ظل صامتًا ثلاثة أيام

"كان العرس عرسين بالنسبة لنا، لم نصدق رؤية والدي بيننا بعد 14 سنة من الاعتقال (..) بالنسبة له كان الأمر كالحلم، أخبرونا الأسرى أنه بعد عودته ظل ثلاثة أيام لا يتحدث، ويقول لهم، اتركوني أنام لا أريد أن أستيقظ من الحلم الذي عشته" يقول سامر.

تقول زوجته رايقة، إنه لا يتحدث عن الأيام التي خرجها خلال اعتقاله إلا ويسبق حديثه تنهيدة طويلة، "عندما عاد سألوه رفاقه في السجن عن شعوره، أجابهم: أنا خرجت ورجعت دون أن أشعر أن قدماي لامستا الأرض، كان شعورًا جميلًا لا يوصف".

من مشغولات أنجزها الأسير أبو جابر وأرسلها لعائلته

وفي كل مرة بعد عودته إلى السجن من "زيارته" القصيرة لعائلته وبلدته كفر قاسم، كان لا يتوقف عن سؤال زوجته، "هل تصرفت بشكل طبيعي بينكم، هل كنت أتصرف مثل بقية الناس أم كنت شاذًا بسلوكي وحديثي؟".

اقرأ/ي أيضًا: ناصر أبو سرور.. ظريف الطول الذي انتظرته مزيونة 26 سنة

يسأله أولاده عن تجربته القصيرة والسريعة بينهم، فيجيبهم أنه كان سعيدًا برفقتهم، وفرحًا لجولته في بلده وبين أهله، كان يقول لهم: "كنت مشتاق أشوفكم، أشوف أولاد تركتهم أطفال وصاروا شباب، ولأني بسجن مغلق، كنت بدي أطلع اتحرك وأمشي بين الناس، وأشوف كل ما حرمت منه داخل السجن".

يُضيف سامر، "يخبرنا دائمًا أن أجمل شيء عاشه خلال خروجه عندما مشينا بجانبه في الشارع، قال لي مرة: كنت في قمة سعادتي رغم أننا كنا في طريقنا إلى بيت عزاء، أولادي بجانبي، جولان الذي كان عمره 5 سنوات، وسامر الذي كان عمره شهرين وواحد وعشرون يومًا، يمشون بجانبي ويحيطون بي رجالًا وعزوة، لن أنسَ هذه اللحظات أبدًا، أولادي صاروا شباب طولي وماشيين جنبي، شيء عظيم أشعرني بنوع من الفخر والاعتزاز والنشوة".

ويُبين أن والده خلال الأيام التي أفرج عنه بها كان يتمنى الوصول إلى البحر لأنه يحب السباحة كثيرًا، لكن لضيق الوقت لم يستطع ذلك فظل الموضوع في باله فترة طويلة بعد إعادة اعتقاله.

من خامس إلى ماجستير

حدثتنا عائلة أبو جابر عن أحمد أنه يحب القراءة كثيرًا ويمضي معظم وقته في السجن منشغلًا بالقراءة والتعليم، ولا تمر زيارة إلا ويطلب منهم كتابًا أو اثنين، ورغم أنه دخل السجن دون أن ينهي الصف الخامس ابتدائي "شبه أُمي" كما يصف نفسه، إلا أنه اليوم ينتظر الحصول على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القدس.

الأسير أحمد أبو جابر يُعلم الجيل الجديد في المعتقلات اللغة العبرية والتاريخ والسياسية والثقافة الوطنية

يحب أبو جابر كتابة الشعر والدراسات والأبحاث والمقالات، كما يهتم بالبحث في الشؤون التاريخية والسياسية الفلسطينية خاصة والعربية بشكل عام. في البداية أنهى تخصص البكالوريوس في "الفلسفة وعمل الاجتماع" من الجامعة العبرية في القدس، إلا أن الاحتلال أوقف السماح للأسرى بالدراسة فيها قبل أن ينهي فصله الأخير، فتوجه إلى جامعة القدس وبدأ بدراسة البكالوريوس من جديد.

اقرأ/ي أيضًا: الأسير رائد السعدي يحمل مفتاح السجن معه

يُعرف في السجن بالمُعلم، حيث يعلم الجيل الجديد اللغة العبرية والتاريخ والسياسة والثقافة الوطنية والتثقيف التنظيمي والأدبيات الفلسطينية بشكل عام، "حتى طبيعة حياة الأسرى والحياة الاعتقالية يهتم بتثقيف الجيل الجديد بها، يقول إنه مثلما وجدنا عندما اعتقلنا من أمسك بأيدينا واستقبلنا وعلمنا وثقفنا، يجب أن يستقبل الأسرى الجدد من يهتم بهم ويعلمهم" قال سامر.

وأضاف، "كل شباب الجيل الجديد بمجرد أن يخرجوا من السجن، يقولون لي أبوك موتنا بالتعليم، بالحروب والسياسة بتاريخ هذه البلد وبالحادثة التاريخية تلك، عرفنا بلادنا في السجن أكثر مما عرفناها خارج السجن".

خيانة القدر

في كل مرة يسأل الأولاد والدهم إن كان يشعر بالندم على عمره الذي ضاع في السجن يُجيب قائلاً: "احنا ناس حملنا أرواحنا على أكتافنا من البداية، وكلنا مشروع شهادة، كلنا سنصاب ونعتقل، وقدمنا ما علينا، نحن اعتقلنا لأننا نؤمن بقضيتنا ولازلت أؤمن بها حتى بعد 33 سنة".

الأسير أحمد أبو جابر يحمل المفاوضين في موضوع الأسرى واتفاق أوسلو مسؤولية بقائهم في السجن

يتذكر سامر آخر مرة سأل بها والده عن اعتقاله، حيث أجابه، "القدر خاننا وتركنا في السجن، كان هناك إهمال وعدم جدية في موضوع الأسرى وخاصة الدفعة الرابعة أو الأخيرة، نحن في السجن حتى اللحظة ندفع ثمن أخطاء غيرنا ممن فاوضوا على موضوع الأسرى، وجودنا في السجن حتى الآن وبعد المفاوضات وبعد أوسلو خلل صار بالسلطة وخلل من المفاوضات الفلسطينية".

والأسير أبو جابر، واحد من 28 أسيرًا اعتُقلوا قبل اتفاقية أوسلو، ورفضت إسرائيل الإفراج عنهم أكثر من مرة، آخرها كانت بناءً على تفاهمات مع السلطة الفلسطينية، نقضها رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، وأبلغ الولايات المتحدة حينها بأن إفراجه عنهم سيؤدي لانهيار ائتلافه الحكوميّ، كونهم يحملون الجنسية الإسرائيلية وليسوا فلسطينيين.

يقول أبو جابر لعائلته، إنه اذا كُتِبَت عليه المنيّة داخل السجن فليكن، فهو إن كان يرى أن الحياة ليست رخيصة، لكن سنوات السجن في سبيل الغاية والهدف رخيصة.

يُعلّق سامر، "بُعْد الإنسان عن أهله وأحبته والناس شيء صعب جدًا، ولكن إن كان هناك عزاءٌ لأي إنسان، يظل الهدف الذي دفعه والغاية السامية التي دفعته لأن يقوم بهذا العمل والتي كانت نتاجها الحرمان والبُعد عن الأحبة والأصدقاء والعائلة، هذا أمر غير سهل ولكن الغاية السامية في سبيل القضية، تعبئ الإنسان معنويًا وفيها نوع من العزاء، في النهاية أبي وجميع الأسرى ما خسروا بل قدموا وربحوا"

"33 سنة في سجون الاحتلال ولا زال حتى اللحظة لا يشعر بالندم، يقول دائمًا إن اعتقاله كان قرارًا شخصيًا وإيمانًا منه بقضيته وفي سبيل حرية شعبه الذي لم ينساه أبدًا، هو مؤمن تمامًا أن الناس لا زالت تذكره وتتحدث عنه، وهذا يصبّره على شعور الحرمان والحنين لأبسط الأمور بسبب الاعتقال" يقول سامر.


اقرأ/ي أيضًا: 

كريم يونس.. وما تبقّى من أمل

زنزانة حنا والنائمة!

نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا