27-مايو-2017

تصوير: مصطفى حسونة (Getty)

في عتمة مطبقة، قريبًا جدًا من حيث يستطيعون سماع أصواتهم نفسها، كانوا يقفون على مسافة ليست بالبعيدة عن امرأة هي الأخرى، قريبًا جدًا من حيث تستطيع سماع نفسها، وصوتها، دوّت هناك رمزية صامتة، ولكنها متفجرة، بالبحث الصامت عن معنى مشهد الخسارة الفادحة التي ما زالت ترسم شكلاً ليس بالغريب ولا بالمألوف، منذ أربعين يومًا في رام الله.

أمهات الأسرى لم يردن باعتصامهن في ضريح عرفات شخصه، بل غيابه، والبحث الصامت في زمن ماض يفسر غرابة الحاضر المؤلمة

وقفن هناك، أمهات الأسرى، ليس بعيدًا عن قبر الرئيس الراحل ياسر عرفات، وليس بعيدًا عن فدوى البرغوثي، زوجة الأسير مروان البرغوثي، التي التجأت تعتصم بالقبر. ليس الرئيس الراحل بشخصه ما أردنه، بل غيابه، والبحث الصامت في زمن ماض يفسر غرابة الحاضر المؤلمة. الغياب الذي يدل على زمن ربما لم يكن ليحدث فيه كل هذا. ربما كانت ستكون صورة أخرى، تحمل معنى آخر.

اقرأ/ي أيضًا: الاستثناء الجغرافي داخل حدود المستعمرة

وما بين إطفاء الأضواء من قبل السّلطة، كي لا يرى أحد ما يحدث، أو، كي لا تذهب الرمزيّة الحادة مداها الأقصى، في تحويل القبر من ضريح للزيارات الرسمية، إلى ما قد يكون، مزارًا ثوريًا في مرحلة تطفح بالعجز والبؤس. وما بين تناهي الأصوات المتعبة والحائرة، وتأكيد هذه الأصوات لرمزيّة البحث عن الغائب. الذي هو ليس الرئيس بشخصه، بل شكل من أشكال الزمن المفقود.

ويستمر المشهد نفسه، نساء ورجالٌ كبارٌ في السن، يقطعون الشارع الرئيسي، الذي تعبر منه السيارات، كما يعبر المارة، بجانب خيمة اعتصام الأسرى في رام الله. الجميع يلتفتون بالطبع، نحو الخيمة، إلّا أن أحدًا لا يتوقف لـ"يجلس"، في داخلها. يجلس هنا، تحمل أيضًا، معنى، أنهم ينشدون التضامن وحسب، هم، أهالي الأسرى، في الحقيقة ينشدون الحرية لأبنائهم، الحرية الفورية، إلّا أنهم مثلنا، يشعرون بالعجز، وكل ما يطلبونه، هو الجلوس، بجانبهم.

إن القضية، إلى هذا الحد، تتطلب منا على الأقل، أن نكون صريحين مع أنفسنا، مع شياطيننا الداخلية، بلغة أخرى. كما نمرّ، بجانب خيمة الاعتصام، نلتفت ولا "نجلس"، مررنا قبل أسابيع، بـ "محرقة"، ليست بعيدة هي الأخرى عنا، ومرت هي الأخرى، بسرعة البرق في عناوين الأخبار وفي صفحات السوشال ميديا، كسحابة صيف، لم تترك أثرًا. محرقة صيدنايا. سحابة بيضاء تغطي صورة جوّية، هي ليست بيضاء تمامًا، بل سوداء تمامًا، تفوح منها رائحة الأجساد المحروقة، لأن المقبرة لم تعد تكفي، لابتلاع أكثر من خمسين قتيلاً من سجناء سجن صيدنايا يوميًا، وهذا رقم قد يكون مقارنة بالواقع، متواضعًا.

في إسرائيل، أيضًا يواجهون شياطينهم، ليس الكثيرين، وليس عن طريق التضامن، بل عن طريق الغضب الدائم والشكوى الدائمة، من الفلسطيني المزعج الذي لم يعرفوا بعد سبعين عامًا من اقتلاعه من أرضه، أن يخرسوه، ومازالوا، عرضة لمقاومته الدائمة. وبعضهم، وليس الكثيرين، يواجهون شياطينهم، عن طريق التضامن أيضًا، لكنّهم، مثلنا، يعجزون، عن فعل أي شيء، لأنهم أمام حقّ القوة المتمادية.

لقد عبرنا، مرحلة ما من الفردانية، لم نعد فيها قادرين على منح تضامن حقيقي، إلا لأولئك الذين نميزهم على أنهم لنا، منا، نعرفهم بأسمائهم، عناوين بيوتهم، أعمار أبنائهم، وجوههم، لون أعينهم، لون شعرهم، وماذا يلبسون وكيف يتكلّمون، وما هي أحزانهم، أو أحلامهم. نميّزهم، عن طريق وعينا بأنفسنا، ثم، بما هو لنا، ومنّا. نميّزهم، ونحيطهم بالرعاية والقلق والحب، أو الكره والعداوة والحقد. نميّزهم، ثم نفصل أنفسنا ومشاعرنا، عمّا يحيط بنا ويحيط بهم، فلا نعود نشعر بالقلق، ولا نعود نشعر سوى بالإحراج أمام بعض "المشاعر الجمعيّة"، المتبقية من رحلة عبورنا إلى فردانية مطلقة. بعض الإحراج الذي يجعلنا نلتفت نحو الخيمة، ولا "نجلس"، لأننا حينها سنقع في صلب الحقيقة المرّة: أن طائفة ممّن ننتمي لهم مجازًا، وحيدون أمام كابوس الواقع الثقيل الذي نهرب منه من خلال فردانيّتنا نحو عالمنا الداخلي المرتّب والهادئ والمطمئن على أنفسنا ومن هم لنا. هذا شيطان من شياطيننا الداخلية.

لقد عبرنا، مرحلة ما من الفردانية، لم نعد فيها قادرين على منح تضامن حقيقي، إلا لأولئك الذين نميزهم على أنهم لنا ومنّا

ثم هناك، طائفة أخرى، هي الدرك الأسفل من التفكك عن "الجمعيّ الإنساني"، والانحطاط إلى مستوى الأيديولوجيا المادّية الفاسدة، في عملية مستمرة من تفريغ البشري من الإنساني وتحويله إلى وعاء مادي للأفكار الجاهزة والأيديولوجيا النتنة، التي تعبق برائحة الأجساد المحترقة، والمتعفّنة، لجثث كانت يومًا ما، بشرًا، لهم أسماء وعناوين، ووالدين، وإخوة، وأخوات، ولهم من يحيطهم بالحب والرعاية والقلق. هؤلاء، الذين نظروا إلى المحرقة، ولم يزدادوا إلّا فجورًا في التعبير عن وقوفهم المطلق إلى جانب الطاغية السوري، ولم يزدادوا سوى، فجورًا، في النّظر إلى محدثهم والتباهي بأنهم "شبيحة". وكأن المحرقة، دفعتهم عن حافة الإحراج، إلى حافة الفجور الإنساني والانحطاط الأخلاقي.

هي ذات الطائفة، التي تستطيع ممارسة التخوين، والتمييز بين فلسطيني وفلسطيني، بحسب موقع سكنه وعمله، وطرده من مواقع التّضامن التي تحتكرها بصيغتها الخاصّة، مع الأسرى المضربين عن الطعام. هذه الطائفة، من الفلسطينيين تحديدًا، لم تقم بعبور مرحلة الفردانية، تمامًا. بل عبرت عملية أخرى. عملية، فيها اندفاع أعمى، وعدم القدرة على العيش دون رموز تطغى على الذاتي الفردي، حيث استنارة الفرد الإنساني الحي من خلال العقل والقدرة على التمييز بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ. إلى طغيان الجمعي الطائفي، المشكل من بنيان يقوم على الاستباحة. استباحة الإنسان، جسدًا وروحًا، حتى تفريغه إلى المحرقة، أو تحويله إلى آلة قتل عمياء. لهذه الطائفة، كل شيء مباح، مرحلي، مؤقت، ضرورة تاريخية، شرط تاريخي، ومن أجله، لم يكن من بد، من القتل أو التدمير، وصولاً إلى غاية تجدد كلما نقصت، وتحول كلما بَعُدَتْ.

ولا تبعث هذه الطائفة، على شيء بجانب الغثيان، إلّا إلى مزيد من التفكك المجتمعي، يفسر بعضًا من هذا المشهد العبثيّ. أمّا عن الربط واستحضار قضيّة إلى أخرى، فالقضيّة يجب أن تكون قضية واحدة. لأنّ المنطلق فاسد إذا كانت هناك قضيّتان. فشيطاننا الأوّل، الفردانية، جعل منا أفرادًا نميّز عن طريق وعينا الذاتي أفرادًا آخرين. ودفعنا إلى حالة انفصال شبه تام، عن القضايا الجمعيّة. وشيطاننا الثّاني، يشير إلى تشوه في مبنى الإنسان الفلسطينيّ، إلى حدّ ما.

الإنسان، هو القضيّة، هنا والآن، هناك وفي أيّ مكان. والعمليّة في صيدنايا هي العمليّة نفسها في العفولة والنّقب. هي العملية التي تهدف إلى تجريد الإنسان، من إنسانيّته أوّلا، ومن ثمّ إقناعه بعبثيّة المحاولة، ولا جدوى المقاومة. لأن للقوة، حق البقاء، طالما هي القوّة. ولأن من يملك القوة، يملك القدرة على التمييز بين ما هو مستباح، وبين ما هو غير مستباح. ويملك القدرة على وضع قواعد، البشريّ، وغير البشري. يملك القدرة على السيطرة ويملك القدرة على الحكم.

هل ندرك حقًا، معنى هذا الصراع الذي نخوضه ضد الصهيونية، أم أننا نخوض صراعًا وحسب

وإذا كانت هناك طائفة من الفلسطينيين، وقد استخدمت طائفة هنا، لأنّها طائفة ولا تعبّر سوى عن حالة عامّة، هي حالة تشوّه في روح الإنسان الفلسطينيّ في هذه المرحلة، وهو ليس تشوّها بالضرورة يُشبه تشوّه هذه الطائفة تحديدًا القائم على الاستباحة المطلقة في سبيل رمزيّة متعفنة تعمل عمل المعنى الوجودي المادي لأفرادها. فإذا كانت هذه الطائفة، وهي لها مثيلاتها الأخرى في كلّ مكان، ما زالت تعبّر عن نفسها وتتجدّد في كلّ مرحلة، على الرّغم من الدّمار الحاصل، من القتل، من المحرقة نفسها، فيكون السؤال حينها: هل ندرك حقًا، معنى هذا الصراع الذي نخوضه ضد الصهيونية، أم أننا نخوض صراعًا وحسب، فيه أيضًا، نجد معنى وجوديًا، لوجودنا، دون أن ندرك، ما هو على المحك هنا، من بشريتنا، وبشريتهم؟

اقرأ/ي أيضًا: ثمن القضية.. من يدفعه؟ ومن يقبضه؟

بالبطء ذاته، وبالتسارع ذاته، الذي فيهما خرج دخان المحرقة في صيدنايا، كانت أمعاء الأسرى الفلسطينيين تفرغ أيضًا. وما تعبر عنه الحالة العامة، أن خرابًا عامًا وهو حقيقي وأكيد، قد حل بالمفاهيم التي نحملها عن أنفسنا، كبشر أولاً، وكفلسطينيين ثانيًا. خرابٌ يؤدي بنا، إلى التمييز القائم على الذّات، والتمييز القائم على ما هو مستباح وغير مستباح.

المعركة، لا يمكن خوضها، في مبنى إنساني كهذا المبنى الإنساني الذي نحمله في داخلنا. ولو أنا نظرنا إلى مشهدية الاستعراض في الدفاع عن النظام السوري، وقارناها، بمشهدية الاستعراض العنصري في الكنيست الصهيوني؛ وفي الجرائد الصهيونيّة حول الحلول الذي يطرحها اليمين يمينًا ويسارًا، نهارًا وليلاً للتخلّص من الأسرى والفلسطينيين عمومًا، لن نجد فرقًا كبيرًا.

الثقافة تفسد البداهة أحيانًا، أو غالبًا. لهذا بدأت الكتابة بمشهد أمهات الأسرى، اللواتي لا يعرفن كيف يميّزن بين معتقل هو ابنهم، ويدعون له، كما يدعون لغيره. ليس هناك عقلانية، في دعواتهن وحزنهن، وليس هناك أيديولوجية نتنة وفاسدة، وليس هناك، فردانية، تغترب وتتآلف مع محيطها وتغيره كما تغير أصدقاءها بنقرة زر على الفيسبوك. هناك ربما، ما يزال الإنسان كما هو على صورته الأولى، ليس نقيًا تمامًا لكي لا أخرج بكليشيهات عن نقاء الإنسان، ولكنّه متآلف مع الألم، يعرفه، ويعرف أنه لا يستطيع الاستباحة أو المرور بجانب الخيمة – المحرقة، مرور الكرام.

ففي نقد التضامن، تبرز أوّلا، تفاهة المفهوم، بجانب سخرية الحالة العامة وبؤسها. التضامن، تعزيز للفردانيّة، وشكلٌ من أشكال الانفصال عن الواجب العام، المناط بالإنسان أولا، قبل الإنسان الفلسطيني ثانيًا. هو واجب النّضال ضد الفاشية والعنصرية، أينما كانت، وبأي شكل اتخذته.

وفي هذا السياق، ينسجم النظام السوري والنظام الصهيوني في الإطار ذاته، في العنصرية ذاتها، وفي الفاشية ذاتها. وفي هذا السياق، الواجب، ينبع من التهديد الشامل الذي تشكله كل من العنصرية والفاشية، على أولئك القابعين تحت نيرهما أولا، وأولئك المستظلين بظل هدنتهم الداخلية حيث السكينة والهدوء الخداعيْن. التضامن مع من يحترق أو يجوع، هو غض النظر عن واجبٍ إنساني لا بد منه في النضال ضد مرحلة تاريخية لا يمكن أن تمر مرور الكرام وتورث لأجيال أخرى ستأتي، ولا يمكن إدراك هذا الواجب، في إنسانٍ مشوه وأعمى عن الرؤية.


اقرأ/ي أيضًا: 

فلسطينيون يغلقون شوارع فلسطينية.. ما وراء المشهد

الأسرى يعلقون إضرابهم

"فصائل السلام".. فلسطينيون حاربوا ضد ثورتهم