تمتلك ثورة فلسطين الكبرى (1936-1939) الحيز الأوسع من الذاكرة الفلسطينية من الثورات والأحداث التي شهدتها فلسطين قبل النكبة، إبان الاحتلال البريطاني، غير أن بعض التفاصيل التي صاحبت هذه الثورة منذ انطلاقتها بتاريخ 15 نيسان/إبريل 1936، ما زالت في حكم المجهول بالنسبة لأغلبية الفلسطينيين.
"فصائل السلام"، أبرز الأحداث المظلمة التي رافقت هذه الثورة، وهو الاسم الذي أطلق على الفصائل التي عملت للقضاء على الثورة، وملاحقة المنتسبين لها، وإذكاء روح الاحتراب والصراع بين الأهالي، وإنهاك قوى البلد لصالح العدو.
تشكلت فصائل السلام في النصف الثاني من العام 1938، وجمعت بين مكوناتها خصوم الثورة، والمتضررين منها، والمُستفيدين من الاحتلال البريطاني اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وحرصت على استقطاب كُل من وقع عليه عقاب الثورة وفصائلها خلال السنوات التي سبقت ذلك.
شكل جنرال بريطاني فصائل السلام بالتعاون مع أشخاص كانوا في صفوف الثورة الفلسطينية وارتدوا عنها
وأسهمت أخطاء وقع فيها بعض قادة الثورة، وغلوهم في العقاب، في تجمع فئةٍ تناصبهم العداء وتقف ضد المشروع الثوري في فلسطين، الأمر الذي أتقن استغلاله الاحتلال البريطاني، فاستعان به للقضاء على الثورة بعد فشلهم في تطويع الثائرين، وإنهاء ظاهرة العمل الثوري الذي عمّ فلسطين.
اقرأ/ي أيضًا: السفّاحون: هكذا نفذّنا مجزرة دير ياسين
وتمكن الجنرال البريطاني تشارلز تيغارت من إيجاد منظومةٍ شبه متكاملةٍ لأجل القضاء على الثورة، وذلك بإنشاء مراكز عسكريةٍ للشرطة في المدن الرئيسية، وعلى الطرق، وفي المناطق الحدودية، وهي ما عرفت لاحقاً بـ"المقاطعات"، وكانت تشكل قلاعًا وحصونًا تحمي البريطانيين من هجمات الثوار.
وإلى جانب ذلك، أشرف تيغارت على تسليح "فصائل السلام"، وتوفير الغطاء الأمني والإمداد العسكري لها في مواجهة فصائل الثورة والمنتسبين لها في الأرياف، ما جعل مهمة الثورة أصعب، إذ تم تحصين عدوهم الأساسي وخلق عدوٍ جديدٍ يسهل عليه مواجهتها وملاحقتها، ويعرف مكامن ضعف الثوار، لأنه كان شريكًا في الثورة، وهو جزءٌ من طبيعة البلد، ويعرف جغرافيتها وأهلها.
فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي، ومجموعة من قيادات الثورة الذين ارتدوا عنها وانقلبوا على المشروع الكفاحي، تصدروا "فصائل السلام"، ووجدوا دعمًا ومساندة من سياسيين ورجالاتٍ وازنةٍ لطالما كانت مصالحها أهم ما يُحرك مواقفها السياسية.
وفخري النشاشيبي كان من أقطاب حزب الدفاع الوطني الذي تزعمه راغب النشاشيبي. وقد حمل موقفًا مناوئًا للثورة والحاج أمين الحسيني، باعتباره يتصدر زعامة الحركة الوطنية في حينه، ولعب دورًا مهمًا، من خلال علاقاته مع البريطانيين والصهاينة، في تشويه الثورة وقادتها والتآمر على الكفاح المسلح خلال الثورة الكُبرى.
والنشاشيبي يعد صاحب البصمة الأولى في تشكيل فصائل السلام، وترتيب شؤونها وعقد الاجتماعات لها بحضور جنرالات الاحتلال البريطاني، مثل الجنرال أوكونور. وقد لعب دورًا أساسيًا في التجنيد والتنظير وجمع المعارضين للثورة، كي يكونوا قوة قادرة على اجتثاثها وإيقاف مدّها في البلاد.
أما فخري عبد الهادي، فيوصف بأنه الشخصية الأكثر إثارة في تاريخ الثورة، حيث سارع للالتحاق بثورة 36 في بداياتها، وكان واحدًا من أشجع قادتها وأكثرهم جسارة، وقد غادر فلسطين إلى دمشق ومكث هناك واتهم بسلوكه غير المنضبط.
عاد عبد الهادي لفلسطين لاحقًا يقود حملة حطين، مُشبها نفسه بالقائد صلاح الدين الأيوبي، وبدأ بخطابٍ ثوريٍ ونشر البلاغات التي توهم بأن حضوره استمرارٌ لخط الثورة. غير أنه سرعان ما انحدر وتورط في قيادة "فصائل السلام" في منطقة جبل النار، المعروف بمثلث الرعب، والذي كان محور العمل الثوري خلال سنوات الثورة الكبرى.
وعمل عبد الهادي بحكم نفوذه وعلاقاته بقادة الثورة في مراحلها الأولى على تجنيد عدة فصائل معه، وارتكبت فصائله جرائم كبيرة بحق الثورة والمنتسبين لها، وفتح باب الثأر والانتقام، وأدخل البلاد في أتون حرب وصراعات.
ولم يقل دور عبد الهادي عن دور النشاشيبي، وهو الدور الذي دفع المجموع الفلسطيني ثمنه ولا يزال ندفع الثمن حتى اليوم. فتم تشويه صورة الثورة واتهامها بالإرهاب والدموية، وارتكاب الجرائم، ونُبشت الأحقاد وأثيرت الخلافات، وصارت موجة من القتال المُتبادل بين الفلسطينيين أنفسهم.
ولم تنجح محاولات الثورة في الحد من خطر تمدد نفوذ عبد الهادي، فقد صار له نفوذٌ وفعلٌ خطيرٌ في المجتمع الفلسطيني، وتجمع حوله كل خصوم الثورة، وبدأت سلسلةٌ من ملاحقة الثوار واغتيالهم، وبلغ بهم الأمر مرافقة الدوريات في اقتحام القرى، وهم يلبسون على رؤوسهم أكياسًا تغطي وجهوهم، ولا يظهر منها إلا عيونهم، ليتعرفوا على المشاركين في الثورة ويتم اعتقالهم ومحاكمتهم وإعدامهم.
فتحت "فصائل السلام" باب الثأر وأشعلت صراعاتٍ داخلية، واستمر تأثير أفعالها حتى بعد مقتل قائديها في جنين والعراق
بدأت الثورة تضعف أمام هذه الحالة الخطيرة، وحققت "فصائل السلام" نجاحاتٍ على الأرض، ما دفع خصوم الثورة لأخذ زمام المبادرة؛ والبحث عن خصومهم ممن انتسبوا للثورة طوال السنوات الثلاث، فقُتل القائد العام للثورة عبد الرحيم الحاج محمد في قرية صانور خلال آذار/مارس 1939، وبدأت عمليات الملاحقة والاغتيال تتوالى تباعًا، حتى تمكنت القوات البريطانية و"فصائل السلام" من القضاء على الثورة الكبرى نهائيًا، وقد سُجلت آخر معركةٍ للثورة في أم الفحم بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 1939.
انتهت ثورة فلسطين الكبرى، ولاحقًا قتل فخري النشاشيبي في العراق عام 1941، فيما قتل فخري عبد الهادي في عرابة قضاء جنين عام 1943. غير أن تأثير "فصائل السلام" امتد لإضعاف قوة الفلسطينيين وتعزيز قوة الصهاينة، وصار المجتمع متفسخًا وغير قادرٍ على الاستمرار في حمل المشروع الوطني، وقد ظهرت نتائج ذلك في النكبة عام 1948.
فهل يعي الفلسطينيون اليوم الدرس جيدًا؟ أيدركون أن سلطة البطش ضد أي مشروعٍ أو حالةٍ ثوريةٍ هي استمرارٌ لدور "فصائل السلام"؟
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو | تفاصيل ظلّت مخفيّة عن عمليّة "سافوي"