مَن منَا بمقدوره مقاومة عبق الأرز "البسمتي" المُذَهب بشُعيرات الزعفران والمُقطَر بدهن شرائح اللحم المُحمَر في براميل أُعِدت خصيصًا لعشاق وجبة المندي على الطريقة الحضرميَة اليمنية؟
وإذا لم تكن وجبات الأرز واللحم تستهويكم؛ فما رأيكم بطبق مُترفٍ من كُرات الكُبَة اللبنية المحشوة بالكُفتة الغارقة باللبن المَطهو بالمرق؟ أو ماذا عن طبقٍ من الكُشري إسكندراني مُغطىً بشرائح البصل المُكرمل؟
ذلك لم يكن دعوةً للغداء؛ بل بعضٌ من الأطباقٌ العربية التي يُمكنك تذوّقها في غزة، التي لم تعرف مطلقًا معنى الوفود السياحية المُنظمة أو حتى الفردية لتلبي أذواق من يُحبونها.
في غزة التي لم تعرف مطلقًا معنى الوفود السياحيّة المنظمة أو الفردية، تُقدم "طبخاتٌ" عربيةٌ شهيرة يُعدها مغتربون سابقون أو عرب
ففي شارع "الشهداء" وسط غزة، تجتذب المارة مِدخنة مطعم "زاد الخير" التي لا تكف عن نفث الدخان بالنكهة اليمنية، إيذانًا ببدء استقبال من يعرفون كيف يُؤكل المندي أو الدجاج "البرتقالي" المُسجَى على حبَات الأرز البسمتي الذهبي، منذ كانوا زائرين أو مغتربين في مدن اليمن أو السعودية الشهيرتين بذلك الطبق ذو النكهة المُدخنَة.
خلف واجهات العرض الزجاجية، يُساعد أحمد ياغي مجموعة من النادلين لتلبية طلبات زبائنهم الذين اصطفوا بالعشرات لاستلام وجبات المندي الحضرمي. "غالبية زبائننا هم من عاشوا في دول الخليج أو اليمن، وما زالوا مرتبطين وُجدانيًا بثقافة طعام تلك الدول". يقول ياغي (33 عامًا).
اقرأ/ي أيضًا: صنع في غزة: طائرات صغيرة لقطاعات متنوعة
وفي آخر ذلك الطابور، ينتظر خالد العمور (27 عامًا) الذي عاش معظم حياته في عدن. يقول: "فقدت حق الإقامة في اليمن بعد أن عشت وعائلتي هناك لـ25 سنة وانتقلنا للاستقرار في غزة، ولم يتبقّ لي ذكريات من هناك سوى المندي.. ففي هذا المطعم لديهم نفس الطعم المُدخَن".
وقبل أن تتعبق ملابسكم بدخان ذاك المطعم، اتجهوا غربًا قبل الشاطئ بكيلومترٍ واحد. ستجدون الشيف المصري أسامة حسن منشغلاً بتقليب شرائح البصل بمغرفة عملاقة إلى جانب قدر عميق من المعكرونة المسلوقة وآخر من العدس، وأخيرًا كلمة سر طبق الكُشري التي تكمن في "التَقْليَة"، وهي صلصةٌ مكونةٌ من مسحوق الثوم ومعجون الطماطم والشطة الحرَيفة والخل وبذور الكُزبرة الجافة.
الشيف أسامة الذي يحمل مطعمه اسم "كُشري النيل"، كتب على أسفل يافطة بلاستيكية "إنت في مصر". يقول، إن مطعمه الصغير محاولةٌ لنقل طبق الكُشري الشعبي بمساعدة زوجته الفلسطينية إلى غزة التي تفتقر لأي وجودٍ سياحيٍ عربي. "ووجبة الكشري هي أول ما يتجه أهل غزة لتجربته حالما يصلون إلى القاهرة نظرًا لطعمه الفريد وزهد ثمنه".
ورغم الفارق الكبير ما بين مطاعم الكشري في الأحياء الشعبية بالقاهرة أو الإسكندرية؛ مقارنةً بنظيرها الوحيد في غزة، من حيث أعداد الزبائن الهائلة التي تحافظ على تكدسها حتى حلول منتصف الليل وامتزاجها بجلبة الآكلين وضجيج الملاعق والأطباق؛ إلا أن "كشري النيل" حافظ على زبائن يعشقون كل ما هو مصري، خصوصًا وأن انعدام فرص السفر إلى بلاد الفراعنة يُسجَل لصالح "الشيف" أسامة.
اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النَّبي سليمان!
ولبلاد الحرمين النصيب الأكبر ممن عاشوا هناك وحنينهم للعودة ولو حُجاجًا أو معتمرين لتذوق أطباقٍ حِجازية أخرى، غير ما اعتادوا عليه في غزة من القدرة والمفتول والسُماقية والمقلوبة، كأرز "الكابلي" والمطبق السعودي، وهذا ما يمكن أن تجده في مطعمٍ منزليٍ تملكه فاطمة حسونة (59 عاما).
مطبخ فاطمة المعروفة بـ"أم حسن كابلي" لا يهدأ مطلقًا؛ فما إن تُسلم زبائنها وجبات أرز "الكابلي" الشهير ببهاراته الكاملة وبرش قشور البرتقال والزنجبيل الطازج، حتى تستعد ليلاً لتحضير طلبيات اليوم المقبل.
واليوم، تفخر فاطمة بدورها في إضفاء بعضٍ من الشوق والذكريات المرتبطة بتناول وجبات "الكابلي" على شاطئ جدة الرملي. فصديقاتها اللاتي تعرَفن إليها في جدة وصادفن لقاءها مجددًا في غزة يعتبرنها ومطبخها السعودي مصدرًا للحنين المتفجر لعقودٍ قضينها في المملكة، وارتبطت بذكرياتٍ أصبحت من الماضي.
مطاعم تقدم وجبات شعبية عربية في قطاع غزة تجد إقبالاً شديدًا من سكان القطاع المحاصر، خاصة ممن جربوا هذه الوجبات في الغربة
وليس ببعيدٍ عن الجارة السعودية، تُتقن السيدة شيماء التتري (24 عامًا) صنع وبيع "الهريس" الإماراتي المُترف بالقمح واللحم المُذاب، وقوامه المتناغم المكسوِ بطبقة رقيقة من السمن البقري لإضفاء مزيدٍ من الرفاهية على تلك الوجبة الدسمة.
اقرأ/ي أيضًا: الغماري لا تمنعه سنوات عمره الـ70 من العمل
يلمع نجم "الهريس" في موائد الإفطار الجماعي بشهر رمضان وحتى لياليه، لما يحتويه على مخزونٍ هائل من السعرات الحرارية. ولا يزال يستذكر كاتب التقرير –حتى اليوم- مذاق هذا الطبق الغني بمكوناته.
ولا يمكن نسيان أهم أطباق الجارة الملكية الأردنية، فلن يُحسن أردني إكرام ضيفه إلا بالمنسف، بشرط وجود اللحم المحلي. يقول الأردنيون: "منسف ع جاج ما ينفع أردنية إلا منسف باللحمة البلدية"، والأهم الجميد الكركي المشتق من لبن الماعز.
ولعشاق المنسف الأردني في غزة جمهورٌ واسع بحكم القرب الجغرافي وسهولة إعداده، رغم الصعوبة البالغة في حصول سكان غزة على إذن الدخول إلى الأراضي الأردنية. ويندر أن يتناول أهل غزة هذا الطبق في غير أيام الجمعة لحفاوته العائلية.
والآن ربما سال لُعابكم كثيرًا مع تلك الوجبات، ولكن لن تكتمل تلك المائدة إلا بتذوق الكبة اللبنية الحلبية في مطعم "جار القلعة" الذي يُديره السوري أنس قاطرجي الذي نجح بنقل مطعمه من مدينته المنكوبة إلى مخيم النصيرات وسط القطاع.
ويقول أنس: "الناس هنا مولعون بتجربة كل طعمٍ جديد من أي بلد حتى لو كان من أفغانستان". وفيما يمتلئ المطعم ذو الطابقين بأَكَلَة الكبة، يحاول الزبائن ضاحكين تقليد لهجة الشيف الذي لا يكف عن مناداة نادليه بلكنته الحلبية.
ولطالما بقي قطاع غزة دون غيره من المناطق والأقاليم العربية قطعةً جغرافية أشبه بحصنٍ عالي الأسوار، حيث يندر أن يشهد زيارة وفودٍ عربية إلا لأغراضٍ رسمية ولا تستمر سوى لساعاتٍ على أبعد تقدير، فيما نجح بعض سكان غزة الذين عاشوا في تلك الدول بنقل بعضٍ مما أحبوه وعاشوا معه ذكرياتٍ يتمنون أن تعود.
اقرأ/ي أيضًا:
انثروا البذور تحصدوا خضارًا في كلّ مكان