01-أكتوبر-2017

كنت غالبًا ما أبدي تفهمي للحماسة التي تصيب الكثيرين عند حدوث عملية طعن أو إطلاق نار ضدّ جنود الاحتلال الإسرائيلي، وكنت أتحمّس في بعض الأحيان، حيث كانت هذه العمليات بالنسبة لي كما بالنسبة للكثير من الفلسطينيين إشارات تحذيرية حزينة مهما بدت شجاعة، مفادها أننا ما زلنا هنا، وأن هذا الوضع لا يعجبنا وأننا لم ولن نتأقلم مع هذا الاحتلال. ولكن مع الوقت تغيّر كل شيء واختفت الحماسة وحلّ مكانها الخوف!

الحماسة التي نتعامل بها مع العمليات الفدائية، تبدو حزينة! فنحن نُمجّد المنفّذ ونتغنى به، دون أن نقدّم أي دعم حقيقيّ لأسرته في أوقاتها الصعبة

حسنًا، لقد باتت صورة المشهد أكبر، كانت قديمًا تضمن مقتل الجنود الإسرائيليين فقط، ثم كبرت الصورة فأصبحت أرى فيها الفدائيّ وعائلته بشكل متكرر كل يوم، يااه كم تبدو نهاراتهم طويلة بعده ولياليهم قاسية موحشة برفقة الموت! ثم ما لبثت الصورة أن كبرت أكثر، لأرى العملية مع عمليات قديمة مشابهة. وكم هو مؤلم أن ترى الكثير من الخسارات الدائمة تتكرر في ذات الصور، بينما يفرح بها الكثيرون ويرونها نصرًا كبيرًا مهما كان مؤقتًا.

إذا وُجد الموت لأجل شيء فهو حتمًا موجودٌ حتى يعلّمنا أهمية أن نقدّم المزيد من الحب. وخير الحب هو الذي يحول فيه المُحب مشاعره إلى إحساس صادق بالمسؤولية، والموت في هذه البلاد ومن أجلها حدثٌ كبير عليه أن يعلّمنا التأني قبل الفرح، والتفكير قبل إبداء الرأي، الصمت قبل إظهار الحماسة، وتحمّل المسؤولية بشكل حقيقي يتناسب مع إيماننا بقضيتنا وحُبّنا لهذه البلاد.

إنّ الحماسة التي نتعامل بها مع مثل هذه العمليات الفردية تبدو حزينة إذا ما عدنا لنراها بعد أسبوع أو اثنين من العملية، وأقول نراها لأنها مجرّد كلمات كتبناها في عالم افتراضي، مجموعة أخبار وصور وكلمات تمجيدية لمنفّذ العملية نشرناها في لحظة حماسة، ولكن هذه الحماسة لم تأخذنا  بعدها لتقديم أيّ دعم نفسي أو ماديّ حقيقي قد تحتاجه أسرة الفدائيّ في ذلك الوقت الصعب.

ما دمت تؤمن بفكرة وهُناك من يموت من أجل ذات الفكرة فإن إحساسك بالمسؤولية تجاه موته لا بُدّ أن يكون كبيرًا، وهذا التزام أخلاقيّ، ليس تجاه الشهيد وعائلته فقط، بل تجاه فكرتك أيضًا. أليس كذلك؟

هي مشكلة أخرى، إذا كانت العمليات الفردية لا تثير حماستك لأنّك ستخاف مناقشة جدواها أو حتى التساؤل إذا كان هذا أفضل ما يمكن أن نقدّمه للقضية، لأن مجرّد فتح هذا النقاش كفيل بوضع وطنية المتسائلين على المحك، حتى لو كان سبب رفضهم لهذه العمليات ليس معارضتهم لقتل الإسرائيليين بل بحثهم عن طرق أخرى تمنح القضية الفلسطينية انتصارات حقيقية تتعدى لحظات الحماسة والفرح الفيسبوكي فلسطينيًا، ولحظات الهلع والخوف لجيش الاحتلال.

الموت في فلسطين مثل لعبة بازل تفرح أنك وجدت قطعها جميعها (الفدائي- السلاح- جنود الاحتلال) ولكن ما أن تُركّبها معًا حتى يصيبك الذعر من الصورة الكاملة التي شكلتها، فالفدائي استشهد وعائلته تغيّرت حياتها للأبد، والاحتلال عزز من سيطرته على المنطقة، واستولى على مزيد من الأراضي، والشعب مشغول بأخبار جديدة.

المخيف أكثر من كل ذلك، اولئك الذين يتوجهون نحو التّزمت الوطني تمامًا كما التزمت الديني، فالوطن بالنسبة لهم كما هو الله بالنسبة للمتزمتين دينيًا ملكٌ لهم، ووحدهم يعرفون الطريقة المثلى لتحريره، وكل من يعارض أفكارهم خائن أو جبان، هم يرفضون حتى أن نُفكّر في هذا.. أن نتحدّث عنه أو أن نحاول البحث عن مقاومة جديدة.

"يقول الفيلسوف آلان، أسقف لوكسير: "لقد قتل تُجّار الرقود فى ذلك الزمن سقراط، غير أنّ سقراط ليس ميتًا، ففي كل مكان يناقش فيه الناس الأحرار بعضهم، يجلس سقراط مبتسمًا وإصبعه على فمه، لم يمت سقراط أبدًا، وسقراط ليس شيخًا.. وكلّ فكرة تصبح خاطئة عند الاكتفاء بها".


اقرأ/ي أيضًا:

ثعالب على حدود غزة تكبد المزارعين خسائر فادحة

فلسطينيون لـ"السديس": مُطبّع أيضًا!

"غفران السامريين": الرّضع والمسنون يصومون أيضًا