30-أغسطس-2018

خلف نافذته التي تطل على زقاق مخيمه، يُراقب الفتى آدم سالم (15 عامًا) أصدقاءه وهم يلعبون كرة القدم، محاولًا إخفاء قطرات دمعه التي ملأت تجويف عينيه، بينما يستند على عكازيه بقدم واحدة، فالأخرى واراها التراب. وفي لحظةٍ ركل صديقه الكره عاليًا فمدّ يده حتى كاد أن يلتقطها علّه يشبع  لو قليلاً من شغفه  بها، ثم هم بالنزول أسفل؛  لكن إصابته أعاقته.

أسدل الستار على جدران غرفته التي بات رهين جدرانها، لكن لم يسدله عن  السبب الذي حرمه ممارسة هوايته، فلم يكن يعلم أنّ ذهابه للتنزه برفقة ابن خاله شمال قطاع غزة، سيعرضه للقنص مباشرة من قبل جنود الاحتلال الاسرائيلي المتمركزين على طول الحدود خلف ثكناتهم العسكرية، ثم للاعتقال.

لم يكن الفتى آدم سالم يعلم أن التنزه قرب السياج الفاصل في غزة برفقة ابن خاله سينتهي بقنصه ثم اعتقاله

بتاريخ 27 حزيران/يونيو، قرر آدم برفقة ابن خاله الترفيه عن نفسيهما، فقصدا أرضًا زراعية شرق القطاع - بعيدًا عن صخب المدنية وشوارعها المزدحمة - ليتبادلا الحديث حول أحلامهما وطموحاتهما بينما يتناولان المسليات المتواضعة، وعندما بلغ الحر والعطش منهما الذروة، خطر ببالهما الذهاب لمخيم العودة قرب السياج الفاصل بحثًا عن قارورة ماء.

اقرأ/ي أيضًا: كيف سرق الاحتلال ضوء حسان التميمي وأبدله كوابيس؟

عندما وصل الرفيقان نقطة تبعد مسافة 70 متر عن السلك الشائك، بدأ جنود الاحتلال إطلاق النار عليهما بكثافة من كل صوب، فسقط آدم أرضًا، وتحت تهديد الرصاص هرب ابن خاله فافترقا، بينما اعتقل جنود الاحتلال آدم وهو فاقد للوعي.

بعد مرور 24 ساعة استيقظ آدم  على صوت صراخ جنود الاحتلال يتحدثون اللغة العبرية في غرفة أشبه بالعزل الانفرادي، لا ماء فيها، ولا هواء، ولا حتى ضوء شمس، فلم يعرف الفتى وقته إن كان ليلاً أم نهارًا، لم يكن ذلك داخل أحد السجون بل في أحد أقسام مستشفى "برزيلاي" الإسرائيلي.

"يما.. بدى اشرب مي، بردان غطيني، وينكوا حد يرد علي"  كانت هذه أولى الكلمات التي خرجت من فم الفتى المرتجف فور استفاقته؛ لكنه لم يجد أحد أفراد عائلته حوله، بل كان يحيط به ثلاثة جنود إسرائيليين، لم يسمحوا للأطباء الدخول عليه سوى  دقائق معدودة  ثم يتركوه.

14 يومًا كانت الفترة التي قضاها آدم معتقلاً داخل المستشفى الإسرائيلي تحت وطأة أنواع مختلفة من العنف، ومنها الإهمال الطبيّ المتعمد، والحرمان من تناول الدواء في ميعاده، وكذلك منعه من الدخول للحمام، وشتمه باللغة العبريّة.

يروي الفتى بعضًا من صور معاناته أثناء فترة علاجه في المستشفى الإسرائيلي قائلاً: "في الأسبوع الأول من مكوثي في المستشفى كنت أظن أني داخل سجن وليس غرفة علاج. كان يأتي الأطباء مرة كل يومين للكشف على حالتي لدقائق قليل  ثم يغادرون، والجنود يحيطوني من كل جانب ويتناوبون ذلك صباحًا ومساءً، وفي حال شعرت بألم شديد يعطوني مسكنات تشعرني بالهلوسة".

حوّل جنود الاحتلال غرفة آدم سالم في المستشفى إلى غرفة تحقيق، وحاولوا ابتزازه لتقديم معلومات عن أهله وأصدقائه

ويُضيف، "في الأسبوع الثاني لم يزُرني أحد من الأطباء، وتحولت الغرفة لمكتب تحقيق مظلم، وبدأوا استجوابي لإجباري على تقديم معلومات عن أهلي، المقاومة، أصدقائي، وقام أحدهم في اليوم الثالث عشر  بفبركة صور أقتل فيها جنديًا، وطلبوا الاعتراف بأني قتلته لتبرير اعتقالهم لي، وعندما رفضت قام أحد الجنود بركلي بقدمه بقوة على ساقي التي أصبت بها فبدأت بالصراخ عاليًا لكن لم يستجب لي أحد".

اقرأ/ي أيضًا: نجا وجهها من الحرب.. طفلة "عصية الدم": أريد أن أكون خبيرة تجميل

يومًا تلو الآخر كان يتجرع الطفل آدم الألم محاولًا ابتلاعه حتى لا يبتزه الجنود فيه مقابل تحقيق هدف معين لهم، وفي كل مرة كان يرفض فيها الحديث ملتزمًا الصمت، كانوا يتحايلون عليه بتقديم بعض من الأكلات المفضلة له، كأسلوب آخر من التعذيب النفسي. ذات صباح قدموا له قطعًا من البيتزا التي بحبها، وفاوضوه عليها مقابل أن يخبرهم معلومات إضافية لكنه رفض، فبدأوا  يمضغونها بصوت عالٍ حتى سال لعابه لكنه لم يأكل منها أي فتات.

بالتزامن مع الأيّام التي قضاها آدم على أسرّة الاعتقال، كانت عائلته تتجرع ويلات من الانتظار على أحر من الجمر، علهم يحصلون على أي معلومة تقيدهم بمصير ابنهم، حتى رن هاتف والده بعد أسبوعين من اختطافه. كان المُتصل إسرائيليًا، وقد أبلغه أن يحضر إلى معبر بيت حانون فورًا لتسلّم نجله.

بدأت دماء الأب تغلي خوفًا على وضع ابنه، أهو شهيد؟ أم مصاب؟ مرت الساعات ثقيلة حتى أحضر الإسعاف الطفل إلى الجانب الفلسطيني، فتوجه والد آدم مسرعًا وفتح بابه ليجد طفله محاطًا بالأجهزة الطبية، وجهه أصفر شاحب، ووزنه نقص بشكل كبير بينما يسيل الدم من قدمه.

يستذكر والده تلك اللحظات، ويقول معلقًا على ما حدث مع ابنه: "حتى الآن لم أستوعب ما حدث مع آدم، كيف كان يتجول في المنزل، وضحكاته ومزاحه مع أشقائه كلها اختفت في لحظات، وتبدلت بحزن كبير عمّ المنزل، بسبب ما ارتكبه الاحتلال الاسرائيلي من جريمة ضد الطفولة والإنسانية لطفلي الذي لم يكن له ذنب سوى الترفيه عن نفسه في مدينته".

ويشرح الأب حالة طفله آدم بعد الإفراج عنه مبينًا أنه بعد مرور يوم بدأ يُلاحظ تعفنًا في قدمه، ونزيف دم لم يتوقف، فأخذه إلى مستشفى الشفاء ليقرر الأطباء بتر قدمه لإنقاذه من الموت، وقد أثبتت التقارير الطبية أنه تعرض لإهمال طبي خلال اعتقاله، ولو تلقى العلاج المناسب من البداية، لكان بالإمكان تجنب بتر قدمه.

الأطباء يؤكدون أنه لولا إهمال الاحتلال لإصابة آدم سالم لكان بالإمكان إنقاذ قدمه من البتر

حكاية  آدم لم تنتهِ هنا، بل بدأ الفصل الثاني من رحلة عذابه، إذ لم يتقبل في البداية جسده دون قدم وتبادر لذهنه كيف سيحقق أحلامه  وشغفه بلعب الكرة والسباحة، والركض مع أصدقائه بين أزقة المخيم.

بُترت قدم آدم، لكن لم تبتر عزيمته ورغبته في أن يُكمل الحياة دون نقص، فهو ينتظر الآن حصوله على الموافقة للعلاج في الخارج لتركيب طرف صناعي، حتى يعود مرة أخرى لممارسة أحلامه التي لم ينجح الاحتلال الإسرائيلي في القضاء عليها.

[[{"fid":"73675","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":570,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

قصة الفتى آدم ليست فريدة في سجل انتهاكات الاحتلال لحقوق الأطفال والفتية الفلسطينيين، بل تُشبهها عشرات القصص لأطفال تعرضوا للتعنيف والإهمال الطبي بعد اعتقالهم، وهو ما تؤكد عليه المحامية ميرفت النحال منسقة الوحدة القانونيّة في مركز الميزان لحقوق الإنسان.

وتقول النحال: "ما تعرض له الطفل آدم من خطف قسري وإهمال طبي وترويع داخل المستشفى الإسرائيلي يُخالف القوانين الدولية والإنسانية التي وقعت عليها إسرائيل لكنها لا تلتزم بها، لذلك من المفترض رفع قضيته للمحاكم الإسرائيلية والدولية حتى لا تتكرر المزيد من الانتهاكات بحق أطفال فلسطين".

ودعت النحال، المجتمع الدولي، للتدخل الفوري لإلزام إسرائيل بتنفيذ نصوص اتفاقية حماية الأطفال المدنيين، وخاصة الفلسطينيين الذين يتعرضون لانتهاكات مستمرة دون توقف.


اقرأ/ي أيضًا:

صور | ناجون من عدوان 2014: كيف تبدو حياتهم الآن

محمد طارق.. فتى الثورة الصامت

فيديو | "طيري يا طيارة".. عهد الطفولة يعود بورق ونار