قبل حوالي سبعين عاماً كتب صحفي بريطاني يدعى جورج أورويل رواية أدبية، تحدث فيها عن رؤيته المستقبلية لمجتمع يخضع لرقابة شاملة من قبل سياسيين يستخدمون التكنولوجيا لإحصاء أنفاس الجماهير ورصد سلوكهم. منذ ذلك التاريخ صار مصطلح "الأخ الكبير" يستخدم تعبيراً عن الحالة الرقابية التي يتعرض لها المجتمع من قبل السلطة الحاكمة، وتحوّلت وسائل التنصت والمراقبة المختلفة إلى أدوات هامة في يد الأنظمة، لمعرفة توجهات الناس وما يقولونه في الخفاء.
واليوم لا تبدو السلطة الفلسطينية بعيدة عن هذا التوصيف، بعد اتهامات وجهتها لها مؤخراً مؤسسات حقوقية فلسطينية، بأنها مارست التنصت على مكالمات المواطنين بشكل غير قانوني لأغراض سياسية لا علاقة لها بالبعد الجنائي.
مكالمات مسرّبة لأعضاء في نقابة المحامين تدفع مؤسسات حقوقية إلى اتهام الأمن بالتجسس على هواتف نقابيين ونواب وأحزاب
وعلى ضوء هذه الشُبهات، قدمت "مؤسسة الحق" بلاغاً للنائب العام طالبته بفتح تحقيق جزائي شامل، حول ما نشر في وسائل الإعلام من قيام الأجهزة الأمنية بعمليات تنصت واسعة شملت أحزاباً ومؤسسات سياسية ونواباً في المجلس التشريعي وصحفيين وأعضاءً في نقابة المحامين.
اقرأ/ي أيضاً: قانون الجريمة الإلكترونية: الأخ الأكبر يراقبك
وأكدت "الحق" في بلاغها أن عمليات التنصت تشكل جريمة وفق القانون الأساسي، الذي أكد في المادة (32) أن الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة يشكل جريمة لا تسقط بالتقادم، وأن تضمن السلطة الفلسطينية تعويضاً لمن وقع عليه الضرر.
شعوان جبارين مدير مؤسسة الحق لحقوق الإنسان، أوضح لـ"الترا فلسطين" أن المؤسسة لا تملك معلومات قاطعة ولا تفاصيل ثابتة تؤكد حدوث عمليات التنصت، مضيفاً، "نحن بدورنا تقدمنا ببلاغ للنائب العام طلبنا فيه بفتح تحقيق فوري حول ما نشر، وفي حال ثبت ذلك، فإن هذا الأمر يعتبر جريمة خطيرة".
وأكد جبارين أن التنصت حال ثبوته يعتبر مساً بخصوصيات المواطنين وسلوكاً مخالفاً للقانون، "وإذا كان هناك مبرر للتنصت كمتابعة قضية جنائية مثلاً، فيجب أن يسبق ذلك موافقة من القضاء ولمدة لا تتجاوز 15 يوماً (...) نحن من جانبنا نعتقد أن الأمر متعلق ببعد سياسي وشخصي وليس له علاقة بأي خلفية جنائية".
وشدد على أن غياب المجلس التشريعي وضعف أدوات الرقابة، شجعّ الأجهزة الأمنية على مواصلة انتهاكاتها لحقوق المواطنين، لافتاً إلى ضرورة أن لا تكون هذه الأجهزة مطلقة اليدين وخاضعة للمسائلة والمحاسبة.
شعوان جبارين: التنصت على المواطنين (حال ثبوته) لم يتم دون موافقة أعلى الهرم السياسي، وشركات الاتصالات مشاركة في الجريمة
ويعتقد جبارين أن عمليات التنصت على هواتف المواطنين في حال ثبوتها، "ما كان لها أن تتم دون موافقة وعلم أعلى الهرم السياسي، متهماً شركة الاتصالات بالمشاركة في هذه الجريمة".
ومن المنتظر أن يرد النائب العام على بلاغ "الحق" خلال 10 أيام، وأن يحدد خطوته اللاحقة، وفق جبارين الذي دعا المجتمع "لأن يدافع عن كرامته وخصوصيته، وأن لا يُسلم بانتهاكات الأجهزة الأمنية".
من جانبه، رفض داود درعاوي، أمين سر نقابة المحامين، توجيه اتهام مباشر للأجهزة الأمنية بمسؤوليتها عن عمليات التنصت على هواتف أعضاء في مجلس النقابة. وقال درعاوي: "لا نستطيع الجزم بالجهة التي تقف خلف عمليات التنصت التي نُشرت مؤخراً، ولكن يمكننا التأكيد على أنها جهة تمتلك إمكانيات فنية ولوجستية هائلة، وهذا الأمر يتوفر عند أجهزة ومؤسسات وليس أفراداً أو هواةً أو قراصنةً".
ولم يستبعد درعاوي في حديثه لـ"الترا فلسطين" أن تكون الأجهزة الفلسطينية تنصتت وامتلكت التسجيلات فعلاً واحتفظت بها، ثم استولت جهة أخرى خارجية أو محلية بطريقة ما على هذه التسجيلات ونشرتها.
واستدرك قائلا: "في النهاية الأجهزة الأمنية مسؤولة عن كشف حقيقة ما جرى ومن تورط في هذا الفعل، سواء كان من داخل الأجهزة أو من خارجها، وتقديم الفاعلين للمحاكمة، لأن ما جرى ليس بالأمر الهين، فهو اعتداء صارخ على خصوصيات الناس".
نقابة المحامين تؤكد صحة المكالمات المسربة، وتتحدث عن تلاعب في محتواها، وتطالب شركات الاتصالات بتوضيح ما جرى
وطالب درعاوي شركة الاتصالات الفلسطينية بإصدار موقف لتوضيح حقيقة ما جرى، كونها الجهة المؤتمنة على مكالمات المواطنين التي تعتبر جزءاً مهماً من خصوصياتهم ووجوب حمايتها بطرق فعّالة.
اقرأ/ي أيضاً: وزارة الإعلام تنتهك القانون إرضاء لـ"الداخلية".. الضحية صحافية
وأكد درعاوي صحة المكالمات المسربة، منوهاً في الوقت ذاته إلى أنه جرى نسخ ولصق بعض مقاطعها وتحويرها ومنتجتها بهدف الإساءة لأعضاء في النقابة. وأشار إلى أن هذه المكالمات سُجّلت قبل أكثر من شهرين ونصف، خلال المرحلة التي تبعت اعتقال المحامي محمد حسين على يد الأجهزة الأمنية الفلسطينية من محكمة بداية نابلس.
وأضاف، "تقدمنا ببلاغ رسمي للنائب العام، ووضعنا كل ما لدينا من معلومات ووثائق بين يده، ونحن ننتظر الكشف عن الفعالين ومعرفة ما جرى (...) أعرف أن القضية ليست بالسهلة وهي فريدة من نوعها، ولربما تأخذ وقتاً طويلاً".
"الترا فلسطين" تواصل مع النائب العام المستشار أحمد البراك، غير أنه رفض التعقيب، واكتفى بالقول: "لا يجوز لنا التعليق على أي قضية تصل النيابة إلا بعد انتهاء التحقيق". كما حاول "الترا فلسطين" التواصل أكثر من مرة مع الناطق باسم الأجهزة الأمنية عدنان الضميري للتعقيب على ما جاء في التقرير، لكننا لم نتلقّ أي رد.
اقرأ/ي أيضاً:
إنهاء عمل لجنة تعديل قانون الجرائم الإلكترونية.. ما هي النتائج؟