يصعب أحيانًا أن نسمي الأشياء بأسمائها، أو أن نصفها باسمها الحقيقي، ونفضل أن نضع رؤوسنا في الرمال أو أن نغمض عيوننا، ونفسر الأشياء بالطريقة التي تريحنا، فلا يكون التشخيص صحيحًا ولا يكون العلاج سليمًا، ويتفاقم السقم في الجسد ويودي بحياة المريض، فإنكار الحالة نقيض الواقع لكنه لا يلغيه، لذا لا ضير من وضع الأمور في نصابها، وتشخيص الحال الفلسطيني ليس من المحال، فلسنا أول تجارب التاريخ ولا آخرها. فما هو توصيف حالنا مقارنه لما وصفه فلاسفة السياسة في العالم؟
الحال لدينا يشير إلى أن الأراضي الفلسطينة تشهد حركة احتجاجٍ واسعة ضد قانون الضمان الاجتماعي، وتمتنع غالبية الشركات عن التسجيل في هيئة الضمان الاجتماعي، وتتمرد على القانون وترفضه، وهو ما وصفْتُه في مقالٍ سابقٍ بأنه بوادر يقظة مدنية. في ذات الوقت أعلنت نقابة الأطباء عن رفضها لإنفاذ قانون "السلامة والحماية الصحية والطبية" الذي أقرته الحكومة الفلسطينية مؤخرًا، وأصرت على إجراء تعديلاتٍ عليه، والتفَّت على قرارات محكمة العدل العليا بوقف الإضراب، وواصلته بأشكالٍ مختلفةٍ خلال الشهر الماضي إلى أن تلقت على ما يبدو تطمينات بأخذ مطالبها بعين الاعتبار. وقبل ذلك بعدة شهور كانت نقابة المحامين قد أضربت عن المثول أمام محكمة الجنايات الكبرى، وشلَّ المحامون عمل المحكمة إلى أن تم تعديل القانون.
الجهات التي كانت ولا زالت تكسر القانون والقرارات القضائية هي السلطة التنفيذية والأجهزة المدنية، والآن اتسعت لتشمل هيئاتٍ مدنيةٍ ومواطنين
ويوم أمس الأربعاء، 23 كانون ثاني/يناير 2019، أصدرت محكمة صلح رام الله، أمرًا بحبس رئيسي بلدتي رام الله والبيرة، وقد لاقى هذا القرار ردود فعلٍ غاضبةٍ من مجلسي البلديتين، ومؤسسات المدينتين وفعالياتهما، إذ أصدروا بيانًا استنكروا فيه قرار المحكمة ووصفوه بمفرداتٍ لم يوصف فيها من قبلُ قرارُ محكمةٍ، مثل "غير المبرر والمتسرع والمخالف للمرجعيات القانونية، وسابقة خطيرة في التطاول على المؤسسات الشرعية المنتخبة، بل بأنه تطاول على الشعب كله، ويؤسس لفوضى سياسية وحياتية". كما قررت الهيئات المحلية اإعلان الإضراب احتجاجًا على قرار المحكمة.
اقرأ/ي أيضًا: الضمان الاجتماعي يشعل يقظة حقوقية مدنية
ردات الفعل السابقة المتمردة على قوانين وقرارات محاكم، أسوقها على سبيل المثال لا الحصر، وهي من الحالات الآخذة بالاتساع التي تتمرد فيها فعالياتٌ مدنيةٌ بشكلٍ علنيٍ لإحساسها بالظلم ورفض الانصياع لهذه القرارات والقوانين، فالجهات التي كانت من قبل ولا زالت تكسر القانون والقرارات القضائية في فلسطين هي السلطة التنفيذية والأجهزة المدنية، لكن الظاهرة الآن اتسعت لتشمل هيئاتٍ مدنيةٍ ومواطنين، وهذا ما يعرف في العالم باسم العصيان المدني، إن أردنا حقًا أن نسمي الأشياء بأسمائها.
العصيان المدني هو رفض الخضوع لقانونٍ أو لائحةٍ أو تنظيمٍ أو سلطةٍ تعد في عين من ينتقدونها ظالمة. وعرَّفَ الفيلسوف السياسي جون رولس، العصيان المدني، بأنه عملٌ عام، سلمي، يتم بوعيٍ كامل، ولكنه عملٌ سياسي، يتعارض مع القانون ويُطبَّقُ في أغلب الأحوال لإحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة.
ويتسم العصيان المدني وفقًا لفلاسفة السياسة بستة خصائص أهمها: الخرق الواعي والمتعمد للقانون، واتسامه بالسلوك العام، وهو يعبر عن حركةٍ اجتماعية، وطابعه سلمي، وهدفه تعديل قاعدة قانونية، وينادي القائمون عليه بمبادئ عليا كالعدالة والمساواة مما يكسبه الشرعية، وهذه كلها مواصفاتٌ متوفرةٌ إلى حدٍ كبير في الحركات الاحتجاجية السابقة.
الحركات الاحتجاجية في الضفة تنطبق عليها الخصائص الستة للعصيان المدني التي تحدث عنها فلاسفة السياسة
العصيان المدني الذي نفذته جهاتٌ مدنيةٌ وشعبيةٌ بشكلٍ واسع، ورَغِبَت تلك الجهات بتسميته "حركة احتجاجية"، ترافق مع حركة تمردٍ للسلطة العشائرية، إذ لم يعد يقتصر دور العشائر على حفظ الأمن والنظام واتخاذ قرارات قضائية في حال النزاعات التي تهدد السلم الأهلي، بل انضمت العشائرية بشكل واضح إلى حراك الضمان الاجتماعي، وبدا تمردها ورفضها واضحًا في الرد على التصريحات التي أدلى بها وزير الحكم المحلي، وقال إن الحراك يقوده شخصٌ يسكن مستوطنة "كريات أربع"، وبدا كأنه تخوين للحراك.
يبدو أن السلطات الرسمية غائبة عن حقيقة الوضع في الأراضي الفلسطينية، وسيل التشريعات التي أصدرتها خلال العامين الأخيرين، كان جزءٌ كبيرٌ منها على مقاس أشخاص. هذا إضافة إلى الضعف الذي يسود القضاء الفلسطيني، حيث تحولت المحاكم إلى وسيلةٍ لتصفية الحسابات السياسية بين الخصوم في السلطة، فالقضاء الذي كان منذ عام 2010 أداة في يد السلطة التنفيذية التي تتحكم بالقرارات وفق تناقضها مع مصالحها، أصبح بعد عدة سنواتٍ أداة بيد الحزب الحاكم كأنه منظمة شعبية، وأضحى لدى مراكز قوى متصارعةٍ في داخل الحزب السياسي المسيطر، حتى أمست بوادر سيطرة الأفراد عليه واضحة في المرحلة القادمة قبل غروبه، وهذه كلها عناصر أفقدت سلطة القانون هيبهتها، ومهدت بقوة لتزايد مظاهر العصيان المدني والتمرد على السلطة الرسمية.
أعتقد أن على السلطة الرسمية أن تتوقف مليًا على ما يجري، وأن تأخذ بإيجابية هذا التحذير الناصح، وأن تؤخذ بعين الاعتبار أن تَمزُّقَ السلطة والابتعاد عن الاحتكام إلى القانون، وتغليب مصالح الفرد ومصالح الحزب على حساب مصالح الوطن، لن يجر إلا لمزيدٍ من الويلات. فنحن من جهةٍ أمام هجمةٍ إسرائيليةٍ لتقويض السلطة، وحصارٍ ماليٍ وسياسيٍ أمريكيٍ من جهة أخرى. وداخليًا نعاني ويلات انقسامٍ سياسيٍ، ويلوح بالأفق بوادر تمردٍ مدنيٍ إن اتسع قليلاً ليشمل جوانب أخرى في ظل ضعف السلطة المركزية، سيكون قادرًا -لا سمح الله- على تقويض السلطة.
لا يمكن وضع كل هذه المدخلات على نفس الميزان والمساواة بينها دون تمييز، والسلطة لا زالت هي الجهة الوحيدة التي يمكنها معالجة الأمر، ولن يكون هذا دون هروبٍ إلى الأمام باتجاه انتخاباتٍ عامةٍ حرة ونزيهة في الضفة والقطاع، تستطيع ترميم ما قوضه الساسه وأصحاب المصالح.
اقرأ/ي أيضًا:
سلطتان من ورق وحطب على عامود خيمة المنسق