20-أكتوبر-2016

وسط الحيرة في انتقاء مقدمة لهذا الموضوع؛ كونه شائكًا. أتذكر ذلك الرجل الثلاثيني الذي تأكدت فيما بعد أنه طيب ولا يقصد أي إساءة، عندما التقينا لأعمل معه في البلاط. وهو من مدينة سخنين الواقعة في الجليل الفلسطيني المحتل عام 48.

سألني حينها، من أين أنا، قلت من قباطية. فرحب بي "أهلًا أهلًا" وقال بحفاوة "يعني إنت ضفاوي من قباطية"، ثم أضاف، وهو ينظر للأعلى محاولًا الوصول لحجرة ما في ذاكرته: "لقد عمل معي قبلك ضفاوي من غزة"!

عرب إسرائيل واحد من مصطلحات كثيرة أوجدها تقسيم الاحتلال لفلسطين إلى أجزاء

نبّهته إلى أن الذي من غزة يقال له "غزاوي" لا "ضفاوي". وبخلاف ما توقعت، لم يخبرني بأنّ ذلك الوصف سقط منه سهوًا، بل استقبل تنبهي كمن يتزود بمعلومة جديدة! نعم، إلى هذا الحدّ اختلطت علينا التسميات والمفاهيم.

اقرأ/ي أيضا: صناع النكبة الفلسطينيون

"عرب الشمينت، عرب إسرائيل، عرب 48، فلسطينيو الداخل، أهل الداخل، ضفاوي- وبالعبرية شتاحيم، هوية زرقاء، هوية خضراء، مغتربين، مخيمات، شتات، ضفة، غزة، الخط الأخضر، 48 و67".

هذه المصطلحات وغيرها، طرأت على القاموس الفلسطيني وتضخمت فيه مع الزمن بتسارعات متفاوتة؛ كنتيجة - ربما حتمية - لإقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية عام 1948. وباتت تستخدم للإشارة إلى الفلسطيني "الجديد" الذي تفتت عنوةً إلى أكثر من فلسطيني، فلازمته أكثر من تسمية للدلالة عليه بعد إحاطته بحواجز الاحتلال وتذويتها في هُويته، بمعنى جعلها جزءًا من تركيبته ومؤثرًا أساسيًا في شكل تعريفه بنفسه وبالفلسطينيين الآخرين.

نخلق الجانب المظلم إذا لم نجده!

كانت البداية الأكثر مباشرة هي سؤال الناس عن هذه التسميات وأيها يعتمدون، إلا أن السؤال المباشر أطلق إجابات معقدة ومركبة ومتنوعة، نبدأ بأكثرها حنقًا.

اسمه مصطفى ربايعة (25 عامًا) من بلدة ميثلون في شمال الضفة الغربية، يعمل مزارعًا بعدما سئم البحث عن عمل لا يجده في مجال شهادة المحاسبة التي نالها من جامعة النجاح في نابلس. سألته لغرض إعداد هذه المادة، ماذا يُسمي "فلسطينيو الداخل المحتل"، فشدد على لفظ "عرب الشمينت"، وبعد أن خرجتُ عن حيادية معدِّ مادة صحافية، مستنكرًا هذه التسمية مُنبِّهًا إياه إلى مغالطتها "الوطنية"، جادلني بالقول: "أعلم بأنهم كانوا فلسطينيين في يوم من الأيام، وأنا أطلق عليهم تسمية عرب الشمينت متعمدًا التعبير عن بغضي لهم".

اقرأ/ي أيضا: كرة القدم في فلسطين.. صراع قبل النكبة

بدا واضحًا أن لدى ربايعة أسبابًا لهذا الحنق الذي أطلقه سؤالنا له، ومنها حسب تعبيره: "يتعالون علينا. يحترمون القانون في بلادهم (يقصد داخل "إسرائيل")، أما هنا لأن قانوننا لا يسري عليهم فينتهكونه ويهينون رجال الشرطة، ويعتبرون عمال الضفة عندهم أقل مرتبةً من البشر، ويقلدهم شبابنا وبناتنا في لبس الفيزون والممزوع".

تحكم تجربة ربايعة الشخصية رأيه، ويعمد إلى التعميم بشكل صارخ استنادًا على تجربته وما يعرفه، وعند سؤاله عن رأيه بوجود إيجابيات للتواصل بين أهل الضفة وأهل الداخل المحتل، يسارع إلى الإنكار. حتى الإيجابية التي يتفق الكثيرون عليها، المتمثلة بالنفع الاقتصادي الضخم الذي يعود على الضفة الغربية (تحديدًا جنين) إثر استهلاك أهل الداخل في قطاعات التعليم والطب وأسواق السلع والخدمات، أنكرها مصطفى واعتبرها سلبية.

فهو يرى أنهم لا ينعشون إلّا خزينة السلطة إثر تعاظم الضرائب، وجيوب الأغنياء والمجمعات التجارية، "أمّا نحن المزارعين والفقراء فترتفع علينا الأسعار بسببهم"، هكذا قال مشيرًا إلى ما اعتبره ارتفاعًا في أسعار السلع والخدمات وتكاليف التعليم في الضفة الغربية، جرّاء ازدياد الطلب عليها مع قدوم المستهلكين لها من الداخل الفلسطيني المحتل.

تشهد أسواق مدينة جنين والجامعة الأمريكية فيها إقبالا شديدا من فلسطينيي الداخل

هنا ذكرنا لمصطفى، دراسةً أجراها الباحث الاقتصادي د. رجا الخالدي، خلُصت إلى أن أهالي الداخل ضخوا قرابة المليار و300 ألف شيقل في أسواق الضفة، عام 2013 وحده. وسألناه بناء على الدراسة: "ألا يحتمل أن يطال نفع هذا الرقم الكبير بعض الفقراء في الضفة والعمال في ورش صيانة السيارات والهواتف وعمال المطاعم وأصحاب بسطات الخضار وغيرهم؟"، فكانت إجابته وبالحنق نفسه: "حتى لو بفيدونا مش محبة فينا.. هم بدوروا عالرخص.. لما الشاورما عندنا 12 شيقل وعندهم 40 أكيد رح ييجوا على جنين".

في سوق جنين التقينا مع عادل شعبان من سخنين (45 عامًا). كانت أول رسالة شدد على نقلها، أن هذه المرة الأولى التي يزور جنين فيها، ومضى يشرح الفكرة لنا كمن يدفع تهمة عن نفسه؛ فقد علمنا بعد الحديث مع فلسطينيين كثر من الداخل المحتل، بوجود نظرة ما تسود بينهم، تُصوِّر الذين يقصدون جنين للتسوق على أنهم من مستوى اجتماعي منخفض، لذا يبحثون عن الأرخص في جنين.

بعد أن اعتذر لنا عن ما اعتبره قولًا قاسيًا في وجوهنا، وصف عادل الضفة بما معناه: "هذه المظاهر ليست موجودة عندنا في إسرائيل، هنا لا نظام ولا نظافة ولا تعليم ولا ثقافة والبائعون عصبيون، ومع أننا نأتي لننفعكم إلا أن كثيرين لا يحترموننا ويتحرشون بالنساء والفتيات". وأضاف: "لنكفّ عن تذنيب إسرائيل، يعني هذه البسطة لا يأتي اليهودي ويطلب منك أن تغلق الشارع بها، ولا ذنب لليهودي في كونك بائعًا استغلاليًا".

"إن خليت بليت"

في شارع "أبو بكر" الأكثر زخمًا بمدينة جنين، يوجد يوميًا بائع الذرة الشاب عبد الله أبو الهيجاء، المشهور بلقب "روكي ركان". قال روكي إنه يعتمد تسمية "عرب48" لأنه لا يقرُّ بوجود شيء اسمه إسرائيل. ويبرر وصفهم أهل الضفة بالاستغلاليين؛ في أن "جشع بعض التجار"، يكرِّس هذه النظرة.

ويعتقد روكي أن العلاقة بين "الطرفين" ليست بأفضل حال، "فإذا صارت كذلك رح ييجي منهم أكثر ويتحسن السوق والدخل في جنين"، كما قال. واقترح لتقليص الفجوة في العلاقة: "نقترب كلنا من الدين، ونكون أصحاب قضية واحدة".

وناشد روكي ركان، من أسماهم أهل الضفة والداخل، بعدم التعميم في إطلاق الأحكام على بعضهم. فعندما يتعرض أحدهم إلى موقف سلبي من آخر يجب ألا يحكم بالسلبية على كل أبناء بلد المخطئ بحقه؛ مستشهدًا بالمثل الشعبي "إن خليت بليت".

"لأنهم ينفّعوننا"

من جهته، قال صامد الحامد، من مخيم جنين (22 عامًا)، وهو يعمل في نقل أغراض المتسوقين على عربته بالأجرة: "بسميهم عرب إسرائيل، عرب48، أهل الداخل. كلو معنى واحد وما بتفرق، المهم اسم نعرفهم فيه".

هل تحبهم يا صامد؟ سألناه. "اه بحبهم، بيجوا ينفعونا". كرر لو سمحت، لماذا تحبهم؟ فارتبك صامد وغيَّر الإجابة "لأنهم زي أهلي".

"تحرش انتقائي"

بدورها، رفضت سوزان شرارة تسمية "عرب إسرائيل" مشددة على أنها فلسطينية.

سوزان من الناصرة، تدرس اللغة العربية والإعلام في الجامعة العربية الأمريكية- جنين. شرحت مفهومها للتحرش الذي تتعرض له من الذكور في جنين: "بخلاف التحرش المرضي الذي يعرفه العالم ويكون منطلقًا من رغبة رجل بامرأة، هنا في جنين أتعرض أنا وصديقاتي لما أصفه بالتحرش العنصري الانتقائي؛ إذ يظهر بألفاظ المتحرشين بنا أن تحرشهم موجه من ذكر إلى فتاة يعتبرها من عرب إسرائيل المنحلين المؤسرلين".

وأضافت، "ينظر بعضهم إلينا على أننا فتيات قادمات من بيئة انحلال أخلاقي، لذا يسهل النيل منا، ولا يقدم كل من يتحرش بنا على ذات السلوك مع بنات الضفة". وعبّرت عن حزنها حيال ما وصفته بـ"انتشار العنصرية والغباء" في كل مفاهيم الفلسطينيين عن بعضهم.

لكن سوزان لم تعمم أيًا من أحكامها؛ إذ قالت: "رغم كل ما رأيته من سلبيات في جنين، وجدت فيها أناسًا ألطف مما تصورت سابقًا، وأشتاق لهم عندما أكون في الناصرة".

تأثير السوق وأوسلو في العلاقة

من جهته، اعتبر أستاذ الإعلام في الجامعة العربية الأمريكية، سعيد أبو معلا أن السلطة والأحزاب ومنظمة التحرير الفلسطينية تدير هذا الملف "بطريقة متخلفة"، وفق وصفه، محملًا هذه الجهات جزءًا كبيرًا من مسؤولية توترات العلاقة بين أبناء الشعب الفلسطيني.

ودعا النظام الرسمي الفلسطيني إلى أن يرى بأهل الداخل المحتل استثمارًا وطنيًا، وأن لا تقتصر رؤيته لهم على أنهم استثمار اقتصادي تجاري فحسب.

اقرأ/ي أيضا: حكاية الشعب اليهودي في فلسطين

وعبّر أبو معلا عن أسفه، لاهتمام السلطة الفلسطينية بإنشاء لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، في حين تهمل إنشاء جسم على غرارها، تكون وظيفته التواصل مع الفلسطينيين في الداخل وإنشاء علاقات وطنية اجتماعية، مبنية على الوعي بأهمية التنوع وحق الآخر في الاختلاف، "لمحاربة هذه الإقصائية والإلغائية للآخرين التي تعتبر أهم عوامل الفرقة في هذا الشعب الواحد".

وفي هذا السياق استذكر "دائرة شؤون الوطن المحتل" الملغاة من منظمة التحرير، والتي كانت تتكلف بدراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والنضالية لفلسطينيي الداخل. متسائلًا: "لماذا ألغى الرئيس عباس هذه الدائرة، أم أن إلغاءها مآل طبيعي لسقوط الشعب الفلسطيني الموجود في الوطن المحتل من العقل السياسي للسلطة؛ كنتاج لأوسلو".

وعودة إلى الإشكال في العلاقة، يرى أبو معلا أن "الطرفين"، مع رفضه لكونهما طرفين، يخرجان بانطباعات عن بعضهما "من خلال تواصل مشوّه أصلًا وغير مكتمل"، ذاهبًا بالمعنى إلى أن السوق قائمة على تبادل نفعي استهلاكي استغلالي في طبيعتها، فلا تصلح تعاملاتها لتكوين انطباعات ومفاهيم وأحكام شاملة عن شخص أو جهة ما.

وقال: "معظم الناس الذين يذهبون من الضفة إلى الداخل يقصدون العمل، ومعظم الذين يتجهون من الداخل نحو الضفة يقصدون التسوق والاستهلاك، وللأسف تتشكل الانطباعات في هاتين البيئتين المتسمتين في أي مكان من العالم بجشع التاجر واستضعاف رب العمل للعمّال".

وأضاف، "من يؤمن بفلسطين التاريخية لا يسأل لماذا يجب أن تختفي الاضطرابات من علاقتنا ببعضنا".

الاحتلال أولاً وأخيرًا

ومن جانبه، يعتبر عضو اللجنة المركزية في حزب التجمع الوطني الديموقراطي عمار أبو قنديل، من الناصرة، أن "عرب إسرائيل"، تسمية احتلالية هدفها محو الهُوية الفلسطينية العروبية، بالتوازي مع خلق هوية مرتخية للفلسطينيين تذيبهم كأقلية عربية داخل الكيان الاسرائيلي.

سعت إسرائيل جاهدة لزعزعة الهوية الفلسطينية بالنسبة لمن بقوا في الأراضي المحتلة عام 48

وشدد قائلًا: "لنلمس أساس المشكلة اليوم، على الجميع أن يتذكروا أن الفلسطينيين في الداخل هم الناس الذين ثبتوا في أراضيهم وعاشوا النكبة. وتهجروا داخل بلادهم".

وأضاف: "مشكلة الهوية، مرة ترى نفسك فلسطينيًا، ومرة جزءًا من وطن عربي واسع، ومرة تجد حالك جزءًا من دولة احتلتك وسرقت أرضك لأنك مجبور أن تلتزم بشروط المواطنة؛ كسبيلٍ وحيدٍ لحفاظك على أرضك".

ورأى أبو قنديل، أن أول طريقة اتبعها الاحتلال الإسرائيلي الخائف من هؤلاء الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم، هي زعزعة هويتهم ومعرفتهم بأنفسهم. "لذا كانت تسمية عرب إسرائيل بداية لخلق هذا التشكيك والتناقض في الانتماء، فالاحتلال منذ عام 1948 وهو يدفع بكل جهده نحو ضياع الإجابة من الفلسطيني عن سؤال: من أنا؟".

وأكد، "لنمسك بأساس الاضطراب في علاقتنا اليوم، علينا أيضًا أن ننطلق من هنا، الشعب الفلسطيني كان في وطن واحد ثم جاء الاحتلال فقسَّمه، فنتج عن ذلك تدمير وعي كامل بأساليب الترهيب والتخويف وتشويه المناهج التعليمية والسيطرة على لقمة الناس والإعلام".

واختتم بتوجيه رسالة إلى الشعب الفلسطيني بمختلف أماكن وجوده، "الاحتلال الإسرائيلي يلاحق في الأيام الأخيرة حزب التجمع في الداخل وينكل بكوادره؛ ليس إلا لأن الحزب أحد أشكال الحركة الوطنية الفلسطينية التي تشمل الداخل والضفة وغزة والشتات. لذا حتى لو أن جزءًا منا نسي أنه فلسطيني أو أنكر أن أخاه فلسطيني، فإن الاحتلال لا ينسى أحدًا من الفلسطينيين، ولا يفرق بيننا في عدوانه".

اقرأ/ي أيضًا: 

أركيولوجيا النكبة

"كنتُ أتعاطى المخدرات في بيت مستوطن"

الفلسطينيون في تشيلي.. البداية من اللا شيء!