"الإنسان الحر يتحكم بوقته، يستيقظ متى يشاء وينام متى يشاء، يزور أي شيء يريد، ويعود متى يطيب له، ولكن هنا الزمن محكوم بفوهات بنادق الجنود المدربين على القتل والبطش، وإبقائنا رهن الحبس المنزلي" هكذا لخّص الشاب محمود أبو جبرا من واد الحصين الفارق بين سكان منطقته، والعالم الآخر خارج حدود هذا المكان.
محمود وهو طالب في جامعة الخليل يعرّف الاحتلال بأنه الانتظام في طابور، "والانتظام في الطابور هو الجحيم، وهذا الجحيم يومي في واد الحصين"، مضيفًا، "لا حدود للعقبات والمعاناة والإذلال هنا في وادينا الخاضع لحراسة ورقابة شديدتين وعشرات كاميرات المراقبة والرصد، الحاجز يسرق منا الوقت ويجردنا من التحكم بالحياة".
120 حاجزًا ونقطة تفتيش وبوابة إلكترونية تحاصر سكان حي واد الحصين، إضافة لمئات المستوطنين الذين يحرسهم 1500 جندي
هنا، في واد الحصين، أحد أحياء مدينة الخليل المقطعة زمانًا ومكانًا، والمتناثرة بفعل عربدات الاحتلال ومستوطنيه، ومتكاثفة بأصالة وشهامة أبنائها دائمًا، تكمن مشكلة سكانها الأصليين في أنهم يتحملون أكثر مما يجب، خاصة في ظل استمرار سياسة الاستيطان في قلبها، من خلال تضييق الخناق على السكان في البلدة القديمة ومحيطها.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تدحرجت قضية المهندسة نيفين وصولاً لقتلها؟
يقول إبراهيم غيث (37 عامًا) من واد الحصين، إن والدته تضطر لمغادرة المنزل ثلاثة أيام أسبوعيًا لغسيل الكلى، ولا يستطيع تصور أن عليه الانتظار مهما بلغ الوقت، أو مساومته على صحتها نظرًا للظروف الصحية التي تعاني منها"، مؤكدًا أنه لن يرحل مهما بلغ الأمر.
وتضيّق سلطات الاحتلال على سكان واد الحصين؛ عبر وضع وتنفيذ مخططات هدفها إرغامهم على الرحيل، لتسكين المستوطنين في بيوتهم، وذلك بدعم كبير من رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو، الذي أقر خطة استيطانية بكلفة تزيد عن 50 مليون شيقل لتعزيز الاستيطان في الخليل، وفق تقرير نشرته منظمة شباب ضد الاستيطان.
الطفل أحمد الجعبري (12 سنة) يقول إنه يتأخر عن مدرسته يوميًا نظرًا لعرقلة جنود الاحتلال خروجه من منطقته، وقد أدى ذلك لغيابه عن العديد من الحصص المدرسية، وعدم قدرته الالتحاق بزملائه، لكنه يبدي إصرارًا واضحًا في مواصلة تعليمه، حتى بعد إكمال بناء الجدار ووضع البوابة.
ويقع حي واد الحصين، ما بين المسجد الإبراهيمي ومستوطنة "كريات أربع"، كبرى مستوطنات الخليل، وإلى الجهة الغربية منه حارتا جابر والسلايمة.
وعلى بعد أمتار من واد الحصين، 1829 محلاً تجاريًا مغلقًا منذ مجزرة المسجد الإبراهيمي (1994)، إضافة لـ1154 محلاً مغلقًا بطريقة غير مباشرة. وينتشر فوق كيلو متر مربع 1500 جندي إسرائيلي لحماية 400 مستوطنٍ موزعين على خمس بؤر استيطانية، بالإضافة لـ120 حاجز ونقطة تفتيش وبوابة الكترونية.
يبين توفيق جحشن محامي لجنة إعمار الخليل، أن الوحدة القانونية في لجنة الإعمار توجهت عام 2010 للمحكمة العليا الإسرائيلية بطلب وقف أعمال شرق الطريق في واد الحصين، ونجحت بذلك حتى عام 2012، حيث تذرعت محكمة الاحتلال بالتأكيد على الأمر العسكري القاضي بتنفيذ القرار العسكري بحجج أمنية.
ويوضح جحشن لـ"ألترا فلسطين"، أن هذا المخطط الاستيطاني يعبر عن السياسة العنصرية التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي وحكومته العنصرية بحق المواطن الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وهو مخطط يبرهن على التعاون الوثيق والتنسيق المباشر ما بين حكومة الاحتلال والجماعات الاستيطانية، بالتعاون مع النظام القضائي العنصري للاحتلال.
وسيمنع الاحتلال نحو 58 عائلة تسكن في واد الحصين على مساحة حوالي 500 دونم، من ارتياد الشارع الممتد من منطقة واد الحصين حتى مفترق منطقة واد الغروس، من الساعة السابعة صباحًا حتى التاسعة مساءً، كما ستُحبس هذه العائلات في منازلها أيام الأعياد والمناسبات التي يقيمها المستوطنون في المنطقة.
ويبين خبير الخرائط والاستيطان عبد الهادي حنتش، أن نحو 3000 آلاف فلسطيني يسكنون في وادي الحصين، وأبو عياش، ووادي الغروس، والنصارى، ومنطقة السهلة، سيعيشون في ظل نظام فصل عنصري، بعد قرار الاحتلال الإسرائيلي الأخير، شق طريق استيطاني يربط مستوطنة "كريات أربع" بالحرم الإبراهيمي والبؤر الاستيطانية في المدينة.
ويضيف حنتش لـ"ألترا فلسطين"، أن المخطط الذي يجري تنفيذه سيمنع السكان من الدخول إلى منازلهم في واد الحصين أو الخروج منها، وسيعزلهم عن التواصل والترابط الاجتماعي ما بين السكان، وأقربائهم داخل مدينة الخليل.
وطالب حنتش الفعاليات الرسمية والشعبية الفلسطينية بضرورة تدويل قضية أهالي المناطق الخاضعة لبطش وتنكيل المستوطنين أمام المحاكم والهيئات الدولية، وفضح ممارسات الاحتلال ومحاسبته، وتوفير الحماية للمواطنين عبر تعزيز سبل صمودهم وتثبيتهم في أراضيهم.
لا يوجد أي دور للسلطة الفلسطينية مطلقا تجاه سكان واد الحصين، رغم أن حيّهم يقع في قلب واحدة من أهم محافظات الضفة الغربية
وتتواصل عذابات السكان وسط غيابٍ تام لدور السلطة الفلسطينية، وتقصير من جانب الفصائل التي "قررت النزول عن المسرح"، كما يقول القيادي في الجبهة الشعبية بدران جابر، مؤكدًا أن ذلك جعل المواطن عاري الصدر ومكشوف الظهر أمام الاحتلال، وفتح شهية قادة الاستيطان للعربدة والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي.
وعلى بعد 7 أمتار فقط من مستوطنة كريات أربع، يقع منزل الناشط الحقوقي جمال سعيفان، يقلّب عينيه إلى أعلى كأنه يبحث عن ذكرى خافتة أو قديمة. وبينما كنا جالسين في فناء منزله، يحاصر أنظارنا سياج المستوطنة وتكتم أنفاسنا حجارة عمارة الرجبي التي استولى عليها المستوطنون قبل نحو 10 سنوات بالقوة.
يتحدث جمال عن إضافة سلطات الاحتلال المزيد من الحواجز وكاميرات المراقبة وغرف التفتيش العاري على مدخل الوادي، إضافة لشق طريق يحجب الشمس ويعزل التواصل الاجتماعي بين السكان، ويتحكم بمسار وقتهم وحياتهم.
ويضيف، "باختصار نعيش في قفص، نستطيع التأقلم مع أي شيء، يضعون حاجزًا هنا، يتذمر الجميع لبعض الوقت، لكننا نعتاد عليه في النهاية، نواجه بشكل يومي عبثية الإجراءات والخنق، نفكر جليا في كيفية إبقاء أطفالنا على قيد الحياة".
ابتسامة سعيفان كانت متقطعة كحديثه في سرد قصته، قال: "الجنود يسألونك عن كل شيء، عليك أن تكون مقنعًا كي تعبر الحاجز أو تجتاز نقطة التفتيش، لا وجود للعادي عند الاحتلال، الحاجز يجعل من حياتك سلسلة من اللحظات الاستثنائية التي تمتد بينها أزمنة ميتة غير مثيرة مليئة بالكسل والخمول وانعدام الرغبة".
ويبدو جنود الاحتلال خدمًا عند المستوطنين، يتلقون أوامرهم منهم، ويوفرون لهم الحماية والدعم للاستيلاء على العقارات الفلسطينية، وإذلال الفلسطيني وقتله لدفعه إلى الرحيل، لكن هؤلاء لازالوا قادرين على الصمود في منازل وأملاكٍ ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولسان حالهم يقول: "سنبقى ثقبا في مخططات الاستيطان".
اقرأ/ي أيضًا:
نفايات ديمونا.. قاتل صامت في الخليل