04-مارس-2017

قبل عشرات السنين، وعلى المدخل الغربي من حي وسوق السيباط القديم في مدينة جنين، كانت "مراكب البر"، وهن سيداتٌ من ريف جنين، تتربعن على جوانب الطريق وتشكلن حلقات بيعٍ للراغبين، تحملن على أكتافهن قِباع اللبن والدجاج والزغاليل والبط والحبش والزبدة والسمنة والبيض البلدي.

"كنا نطلق عليهنَّ مراكب البر بسبب عدم وجود مواصلاتٍ عامةٍ في تلك الفترة، كنَّ يجُبن شوارع السيباط  قادماتٍ على أقدامهن من الجلمة وعربونة ودير غزالة وأم التوت وجلقموس، يطلبن رزقهنَّ من سوق جنين الوحيد، ومنذ أن ذهبن لم تعد إلينا البركة، وأصبح سوق جنين الذي بني في الحقبة العثمانية سوقًا خاربًا"، يقول التاجر الثمانيني أبو بشار الحثناوي لـ"ألترا فلسطين" متحدثًا عن سوق السيباط.

بدأ "أبو بشار" عمله في سوق السيباط منذ عام 1952، وكان حينها في العشرينات من عمره، أفنى حياته بين البهارات والزيوت المعطرة واحتياجات الفلاحين من بذورٍ وسماد، ومازال يواصل البيع رغم قلة الزبائن الذين يدوسون شوارع السيباط الخالية من حيوية السوق.

يعود تاريخ سوق السيباط في جنين إلى العهد العثماني، وكانت تقصده سيداتٌ من الريف أُطلق عليهن لقب مراكب البر، ولم يبق منه الآن إلا الجدران

كانت بداية المشوار في محلٍ صغيرٍ لا يتجاوز بضعة أمتارٍ، والآن اتسع مع اتساع السوق أمام القوس العثماني الذي كان في القديم بستانًا يتلوه بستان حتى يصل إلى قرية كفر دان، ومياهٌ تخدق في الوسط تسلك طريقًا جف مع الزمن، إلا أنه الآن أصبح يطل على شارع أبو بكر الممتلئ بالمحال التجارية.

اقرأ/ي أيضًا: سوق الرابش.. ليست ذاكرتنا وحدنا!

المحلات في السيباط على الأغلب لم تتبدل، وأُعيد إحياء الكثير منها منذ إقامة السلطة الفلسطينية في تسعينات القرن المنصرم، لكن أكثرها الآن فارغة يملؤها الغبار، وآخر مقتنيات أصحاب هذه المحلات لم تعد مفيدة، فقد اهترأت بفعل النسيان والإهمال.

يفتقد "أبو بشار" للكثير من الأصدقاء في المحال المجاورة، ويشير بإصبعه الذي تملؤه التجاعيد نحو اليسار إلى محال الخياط والحلاق واللحام والمنجد والبقال. ثم يشير في الجهة الأخرى إلى جاره الوحيد الذي مازال صامدًا بعد أن ورث المحل عن جده وعمه وأبيه، فيما يكمل سلسلة المحال الفارغة بائع الدجاج ومبيض النحاس ومراكب البر في الوسط.

أبو بشار الثمانيني، يحمل في جعبته كنزًا من الأمثال يسردها في معظم كلامه مرحّبًا بالمشترين أو المارة الذين يطرحون عليه السلام، يقول: "أنا ربيت هون، لو يحكولي خذ محل بالسوق الجديد ما بقبل، لما جيت هون كان عمري 22 سنة وحاليًا عمري 87 سنة. ما ظل عندي طموح أنزل عالسوق، ومثل ما بقول المثل: مطرح ما ترزق إلزق. لما نطلع أنا والمعاني (جاره التاجر) بصير السيباط كله حيطان يعني فاضي".

يعتبر السيباط جزءًا من البلدة القديمة الموجودة في جنين، والمقامة منذ العصر العثماني. ويفيد مصدرٌ في وزارة الآثار لـ"ألترا فلسطين"، بأن فاطمة خاتون زوجة والي دمشق، بنت الكثير من الآثار في البلدة القديمة، إذ أُعجبت بطبيعتها أثناء مسيرٍ لها من بلاد الشام حتى الحجاز، وكان مما بنته المسجد الكبير.

ويبلغ عمر جنين التاريخي حوالي 8000 سنة، وأقدم موقعٍ موجودٍ فيها هو تل جنين المقام تحت منطقة سوق السيباط، الذي يعود تاريخه لستة آلاف عام.

ويموت الضوء في سوق السيباط مساءً، لولا المقهى الوحيد الذي يرتاده القليل من الرجال، وعمره ما يقارب الـ67 عامًا، فالمقهى أيضًا ظل صامدًا حتى الآن يلم ذكريات القدماء بالصدفة. يُطل على سوق جنين الجديد، ولم يعد يهتم به سوى أصحاب المحلات القليلة الباقية.

يقول صاحب المقهى مجدي دمج، الذي عمل به خلال ثلاثين سنة من عمره، "هناك بعض الأشخاص القديمين الذين اعتادوا الجلوس هنا لكنهم قليلون، فالوضع في السيباط تغير منذ زمن كبر فيه السوق وكثرت المقاهي".

ويرى "أبو بشار" أن البلدية هي الجهة المسؤولة عن الحال الذي وصل إليه السوق التاريخي، "فالناس كلها تتوجه نحو السوق الجديد ولا شيء يجذبهم نحو سوق السيباط الخارب. هذا السوق لو سُقف وأصبح خيمةً مليئةً بالأضواء لتحول لمتحفٍ فيه آثارٌ قديمة يجذب الناس لزيارته حتى يعود رونقه، مثل ما يزدهر في مهرجان السيباط، يجب أن يبقى سوق المهرجان طوال العام"، على حد قوله.

في المقابل، ترفض المهندسة شيرين أبو وعر من بلدية جنين أقوال "أبو بشار"، وتحمل من جانبها أصحاب المحلات مسؤولية إهمال السوق، مضيفة، أن السيباط تم ترميم واجهاته الخارجية وبنيته التحتية في عام 2001، وذلك بهدف استثماره بشكلٍ جيدٍ، "لكنهم في الواقع أساؤوا استخدامه بشكلٍ واضح"، على حد قولها.

وفي كل مرةٍ يُسجل فيها رحيل تاجرٍ ممن تبقوا من أصحاب محلات سوق السيباط، يفقد السوق المزيد من تاريخه وقيمته، وعمره أيضًا، لصالح السوق الجديد الذي يوفر خدماتٍ لا تتوفر في السوق التاريخي القديم.

اقرأ/ي أيضًا:

بالصور: سينما جنين.. هكذا كانت ثم أصبحت أنقاضًا

فيديو | جولة استكشافية للصوفية في جنين

دُور السينما الفلسطينية.. لم يبق إلا الأسماء