15-ديسمبر-2018

بعد غيابٍ طويل، تعود الضفة لمركز الأحداث والاهتمام بعد العمليات النوعية الموجعة الأخيرة؛ لتداعياتها الكبيرة  على مجمل الوضع، وذلك بعد أن تقدَّم المشروع الاستيطاني في الضفة، حتى عبّرت أغلبية الرأي العام الإسرائيلي في استطلاع رأي قبل عامين عن إحساسها أن الضفة هي الأكثر أمنًا لليهود، لتأتي العمليات وتقلب الطاولة، وتُشعِرَ كل مستوطنٍ وجنديٍ أنه قد يكون الهدف القادم، بعد أن استهدفت العمليات المستوطنين والجنود في مستوطنتي "جفعات أساف"، و"بيت إيل" شرقي رام الله، ما يعني انهيار المنظومة الأمنية في الضفة، والانتقال من الهجوم إلى الانشغال الذاتي الذي يعني ضرب عناصر المشروع الصهيوني، ما شكَّل صدمة للمستويات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وكذّب الحملة الإعلامية للتباهي والتفاخر بهدوء الضفة، وتعليل ذلك بنجاعة عمل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، في محاولةٍ لتغطية فشلها في غزة، وإعادة الردع الذي اعترفت إسرائيل بتآكله أمام غزة ولبنان؛ عبر تسجيل إنجازاتٍ أمنية في الضفة.

العمليات أكدت فشل إسرائيل في تحييد الضفة، ووضعت نتنياهو في امتحانٍ قاسٍ مع المجتمع الإسرائيلي

تسعى الاستراتيجية الإسرائيلية لتحييد الضفة للاستفراد بغزة ولبنان، بعد نجاحها جزئيًا بتهدئة الضفة خلال ثلاثة حروب على غزة أوقعت آلاف الشهداء والجرحى والدمار، ما جعل إسرائيل تعتقد أنها نجحت بتفكيك القضية الفلسطينية، وأن غزة ليست أولوية  للضفة، لتأتي العمليات وتصفع إسرائيل مؤكدة فشلها في تحييد الضفة بتسهيلاتٍ حياتية، وهو ما ظهر في التهديد والوعيد الذي يشير للأزمة التي سبّبتها عمليات رام الله بعد أسبوعين من استلام نتنياهو وزارة الجيش، ما يضعه في امتحانٍ قاسٍ مع المجتمع الإسرائيلي، خاصة مع استمرار التوتر على جبهتي الشمال (لبنان) والجنوب (غزة) التي قد تنفجر في أي لحظة، سيما مع تهديد نتنياهو أن إسرائيل قد تشن حربًا على غزة إن لم توقف حماس العمليات بالضفة.

اقرأ/ي أيضًا: "عملية رام الله".. المقاومة أمسكت بزمام المبادرة

أراد نتنياهو بهذا التهديد طرح الرواية الإسرائيلية بأن العمليات "مؤامرة من إيران وحزب الله وحماس" لتقويض مكانة السلطة والتسبب بالضرر، كأن الضفة قبلت التعايش تحت الاحتلال، إلا أنها لن تنجح هذه المرة بتحريض الرأي العام الفلسطيني بعد عملية السلام التي جلبت الأضرار أكثر من الفوائد، كما لم يعد الفلسطيني يتعاطى مع الرواية الإسرائيلية تجاه المقاومة، وهذا ظهر بوضوح في شعور الفلسطينيين بالنشوة بعد العمليات النوعية الأخيرة .

أما بخصوص التهديدات باغتيال الرئيس محمود عباس رغم مواقفه الرافضة للعمليات المسلحة، فإن هذه التهديدات تُشكل تحولاً في رؤية اليمين الحالي في إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني والسلطة؛ فهو يعتبر جميع الفلسطينيين إرهابيين، فتح قبل حماس، وهذا ما عبَّر عنه ناحوم بارنيع في "يديعوت أحرنوت" حين كتب أن اليمين الحالي ينظر للرئيس محمود عباس كـ"الشيطان الأكبر"، وحماس "الشيطان الأصغر"، خلافًا للمواقف التقليدية التي اعتبرت الفلسطينيين أعداءً لكن بينهم "معتدلين" يقبلون بالاحتلال.

نجاح العمليات الأخيرة يعكس تنظيمها والتخطيط الجيد وقدرتها على المبادرة، وجرأتها

نجاح العمليات الأخيرة يعكس تنظيمها والتخطيط الجيد وقدرتها على المبادرة، وجرأتها، خلافًا للعمليات الفردية، مما أفسد على إسرائيل الابتهاج والفرحة بعد اغتيال الشهيد أشرف نعالوة منفذ "عملية بركان"، والشهيد صالح عمر البرغوثي المتهم بتنفيذ "عملية عوفرا"، مما يعمق الخوف الإسرائيلي من أن نجاح هذه العمليات سيؤدي إلى استمرارها، بعد أن أعاد صالح وأشرف صورة "الفدائي البطل" في الوعي الفلسطيني، مما يضرب صميم المشروع الصهيوني؛ بعد تبجح نتنياهو بأن هدوء الضفة نابعٌ من سياساته، وأنه  الأقدر على كسر الفلسطينيين وتوفير الهدوء، وهذا ما ظهر مرارًا باستخفاف نتنياهو في توصيات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بأن سياساته ستفجر الأمور، تحديدًا مع اعتبار الضفة جزءًا من الخاصرة الإسرائيلية الرخوة، وجزءًا من جبهتها الداخلية لوجود مئات الآلاف من المستوطنين والجنود  .

انهيار الضفة لم يكن مفاجئًا بسبب الإحباط والاحتقان الناتج عن  فشل مسيرة أوسلو، واستمرار مصادرة الأراضي، والتهويد، وإهانة الجميع. كما أن عدم تنفيذ السلطة، لقرارات المجلس المركزي، عمّق الاحتقان، وبالتالي أصبح المشروع الاستيطاني اليهودي أمام تحدٍ فلسطينيٍ كبيرٍ قد يفتح المجال أمام سيناريوهات صعبة، خاصة في ظل إقرارٍ إسرائيليٍ بنجاح العمليات. هذا إضافة إلى مواقف السلطة غير المقنعة لشرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني، وهذه ستزيد من غضب وغليان قواعد حركة فتح وكوادرها التي قد تنفجر، وتخلق حالة من المنافسة والسباق لتنفيذ عمليات، مما سيربك الحسابات الإسرائيلية .

الردود الفلسطينية المؤيدة والحاضنة للعمليات، تؤكد أن الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية لا يقبلان التفكيك والقسمة، وما المبادرات من تقديم البيوت بمحافظة رام الله لمن تقطعت بهم الطرق بسبب الحواجز، واستعداد شركاتٍ في الخليل للإصلاح المجاني للسيارات التي  تعرضت لإرهاب المستوطنين، كما الحملة الكبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي لإعادة بناء منزل عائلة المناضلة الكبيرة لطيفة أبوحميد في مخيم الأمعري، إلا أدلةً على تعاظم الوعي الجمعي من خلال البيئة الحاضنة للمقاومة الوطنية في الضفة، كما أنه -رغم الملاحظات الكثيرة على دور السلطة في ما يجري- إلا أن قرار الرئيس أبو مازن بإعادة بناء منزل عائلة أبو حميد، يعتبر قرارًا هامًا وينقل دور السلطة من وكيلٍ أمنيٍ اقتصاديٍ لخدمة الاحتلال، إلى مواجهة سياسات إسرائيل وإفشالها، ودعم الصمود الفلسطيني.


اقرأ/ي أيضًا:

"بيت العنكبوت" يتهاوى في الضفة

درع سلواد

رام الله: غزلٌ قديم في ثورتها