17-ديسمبر-2022
صورة (مجاهد بني مفلح/ الترا فلسطين) 

عندما أَشفى من المرض، سأكتئب دون أن ينتبه أحد، وأجلس طويلًا مع وحدتي، وأزيد من ساعات صمتي، وأدرّب نفسي على التّفهّم، وأرفع من مهارتي، كمريض ينتظر انتكاسته الصّحيّة المقبلة.

أريد شتاءً، ليس شتاء كلّه، بل ليلة ذات مطر مستمر، أترك فيها سيارتي أمام مبنى عملي الّليلي، وأعود مشيًا إلى البيت، أفحص قدرة سترتي على احتمال البرد وتسرّب حبّات المطر

سأتدرّب على عدم شراء الملابس، والتّأخّر في الرّدّ على بريد الأصدقاء، وأغيّر لوح زجاج في الشّرفة؛ كي أرى الصّنوبر أكثر، ولا أحنّ، ولا أتذكّر، ولا أفكر، ولا أنسى، ولا أعاتب أحدًا. 

قبل نوبة المرض القادمة، أريد شتاءً، ليس شتاء كلّه، بل ليلة ذات مطر مستمر، أترك فيها سيارتي أمام مبنى عملي الّليلي، وأعود مشيًا إلى البيت، أفحص قدرة سترتي على احتمال البرد وتسرّب حبّات المطر. أرفض عروض السائقين المتصيّدين للمقطوعين في الّليل، أقفز وأتحاشى برك الماء والحفر، أمر قرب بسطة بائع متجوّل، صامدة في وجه الرّيح، أريد أن أمشي وحيدًا في ليلة ماطرة، مثل شابّ جديد عاد من موسكو، وحصل على وظيفة ليليّة في رام الله. 

فيما تبقى من وقت قبل قدومها، سأسمع موسيقى كلاسيكيّة: فريدريك شوبان -على الأغلب- كيف تمسّ أصابعه شرايين القلب، قبل مفاتيح البيانو. أتابع ركض الكمنجات المجنون عند عمّار الشّريعي، كيف عاند شوستاكوفتش بالموسيقى... مات الحزب، وبقيت المقطوعة الثّانية. وأتخيّل لنفسي دور نزيل هادئ، في بيت مسنّين هادئ، يفكّر في تصميم رقصة قبّرةٍ، على موسيقى الرّاعي الوحيد. 

قبل أن تأتي الانتكاسة المقبلة، سأقود سيارتي في المدينة النائمة، أتنصّت على نار الخبّازين، وأراقب المتأخّرين في مقاهي السّوق، أمرّ على نوم سائقي المدن الأخرى في حافلاتهم خلف المقاود، أراقب هلع المنتظرين على باب مكتب تصاريح السّفر، وأردّ على أسئلة المرضى المتسلّلين في الّليل من المستشفيات. 

سأحدّد صورتي الأخيرة، وأمتنع عن التّصوير. وأدرّب ظلّي، على أن يحلّ مكان وجودي الفيزيائيّ؛ فيمشي بين النّاس، خفيفًا وقليلَ الكلام

في سيارتي سأكون وحيدًا مع الموت، لا صوت معي إلّا صوت المحرّك، سأراقب وداع أعمدة الإنارة في المرايا الجانبيّة، وأسرع كثيرًا؛ لألج في عتمة طريق جبليّ موحش، أتلاعب في المقود، أضغط بسرعة على الفرامل، أسرع وأبطئ، وأدقّق في الزّجاج الأماميّ، علّني أرى وجه الموت، فلا يأتي، ويتركني مثل ولد تطفّل على رجل مرّ مصادفة قرب باب المدرسة.

قبل أن تأتي... سأحدّد صورتي الأخيرة، وأمتنع عن التّصوير. وأدرّب ظلّي، على أن يحلّ مكان وجودي الفيزيائيّ؛ فيمشي بين النّاس، خفيفًا وقليلَ الكلام، وألبس ساعتي لفترات أطول، فالأحياء لا يتركون ساعاتهم في الدّرج، أو مع ألبومات الصّور القديمة.