25-يناير-2018

لم تعد السجون في قطاع غزة تصنف كمكان لحجز المجرمين والفارين من العدالة وأصحاب قضايا الفساد، بل يمكن لأي رب أسرة فاضل أن يدخل السجن لأجل لقمة العيش التي يصارع للحصول عليها بكل الطرق، بعد أن أصبحت كثير من هذه الطرق تفضي إلى السجن، بسبب عجز السائرين فيها عن تسديد الديون التي راكمتها عليهم التزاماتهم المعيشية.

وبلغ عدد أوامر الحبس الصادرة في غزة عام 2017، على خلفية قضايا الذمم المالية والديون، 98.314 أمراً، وفق ما أعلن عنه جهاز الشرطة الذي بيّن أنه من بين كل خمسة مواطنين، يوجد مواطن دخل السجن بسبب قضية مالية.

سجون غزة تمتلئ بالتجار والموظفين وشخصيات وازنة بسبب الأزمة الاقتصادية التي يسببها الحصار وعقوبات السلطة

ووفق معطيات سابقة أصدرها مجلس القضاء الأعلى في قطاع غزة، فإن عدد قضايا تنفيذ الذمم المالية لعام 2015 وصل الى 80.092 حالة، وقد زادت هذه القضايا بشكل طفيف في العام 2016؛ لتصل إلى 80.398 حالة، لكنها سجلت ارتفاعاً كبيراً في عام 2017، إذ تم رفع 18 ألف قضية جديدة.

اقرأ/ي أيضاً: فيديو | كيف كان عام 2017 في غزة؟

وفي حوارات منفصلة أجراها "الترا فلسطين" مع عدد من المحامين في قطاع غزة، تبيّن أن أكثر القضايا تداولاً في مكاتبهم هي الذمم المالية، وأن أكثر ما يقود المواطنين إلى السجون، هي الشيكات البنكية، والكمبيالات الورقية، والسندات المنظمة، وأحكام المحاكم بسبب عدم القدرة على التسديد المالي.

والغالب في هذه القضايا، أن أتعاب كل قضية يتحصل المحامي عليها من صاحب القضية بالتقسيط، كما يقول المحامي أشرف المصري الذي لم يتقاضى أي أتعاب كاملة له من قضايا الذمم المالية منذ عام.

يقول المصري لـ"الترا فلسطين"، إن أكثر من 100 قضية في عام 2017 وصلته من أصحاب الذمم المالية، منها 41 تاجراً، و35 موظفاً تابعين للسلطة الفلسطينية وحكومة غزة السابقة. ومنذ بداية شهر كانون الثاني/يناير وصلت أكثر من 30 قضية معظمها ضد تجار وموظفين، "وهنا أرى أن 2018 سيكون الأسوأ على الغزيين لأن أصحاب الدخل باتوا من زوار السجون" وفق قوله.

قضايا الذمم المالية هي الأكثر في مكاتب محامي غزة، والمحامون يحصلون على أتعابهم بالتقسيط

يشير المصري إلى أن التجار لا يستطيعون تسديد شيكات البنوك ولا الكمبيالات، في ظل تعرضهم لخسائر كبيرة في البضائع والسلع التي يستوردونها، بسبب انخفاض القدرة الشرائية وارتفاع معدلات الفقر عند الأسر الغزية.

اقرأ/ي أيضاً: المصالحة لم تحرك مياه السيارات الراكدة في غزة

ويضيف، "أقل خسائر التجار أصحاب قضايا الذمم كانت 20 ألف دولار، وبعضهم فاقت خسائره عن المليون دولار، لكن للأسف لقوا مصير السجن لعدم وجود وسيلةٍ لتسديد الشيكات، وخرج منهم عدد تحت بند التعهد بدفع مبالغ أصحابها بالتقسيط".

قانونياً يطبق نص قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005 في القانون الأساسي الفلسطيني، وهذا يجيز للمحكمة حسب طلب ذوي الشأن تعجيل التنفيذ، ويسجن مدة 90 يوماً في حال عدم سداد المستحقات المالية، لكن والكثير من القضايا لا يمكن إجراء تسوية مالية لها، لأن الكثير من المدينيين هم من التجار أو أصحاب المشاريع، وقد تعرضوا لانتكاسات. أما على صعيد المدينيين من الموظفين، فتضع المحكمة في الغالب نظام دفع إلزامي بالتقسيط للدائن، وهذا بناءً على طلب محامي المدين.

أيمن أبو ناصر (50 عاماً) أحد التجار المتضررين خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، إذ قصفت طائرات الاحتلال مصنعه وألحقت به خسائر تزيد عن مليونين ونصف المليون دولار، وبعد العدوان حاول العودة للتجارة بالأدوات الصحية والمنزلية، لكن الأزمة الاقتصادية زادت خسائره وتراكمت الديون عليه، فانتهى به الحال به إلى السجن مرتين، ليقضي في كل مرة أكثر من أربعة أشهر.

يقول أبو ناصر لـ"الترا فلسطين" إنه لم يحصل على تعويضات عن خسائره من العدوان الأخير على غزة، ولذلك فقد أُدخل السجن مرتين لعدم مقدرته على تسديد الشيكات. يضيف، "في المرتين قابلت أكثر من 20 تاجراً معروفاً في غزة، لأن الكثير من السلع يحصل فيها تضارب بسبب الوضع الراهن، والخسارة شيء حتمي في هذا الوقت".

تأخر دفع التعويضات عن خسائر عدوان 2014 تسبب بإدخال تجار إلى السجن، وكذلك الحصار سبّب كساداً في البضائع وبالتالي الخسارة والسجن

مأمون جبر (47 عاماً) موظف في السلطة الفلسطينية، تعرض للسجن أواخر العام الماضي لثلاثة أشهر، انتهت منتصف شهر كانون الثاني/يناير الجاري، والآن ينتظر قرار المحكمة في نهاية شهر شباط/فبرار في قضيته، لكنه لا يجد وسيلة لتسديد الدائن حتى بالتقسيط.

اقرأ/ي أيضاً: فيديو | أزمة مالية تُطفئ فضائية الكتاب

لا يبقى لجبر من راتبه الشهري إلا 350 شيكل (100 دولار) بعد خصومات السلطة الفلسطينية التي تجري بأمر من الرئيس محمود عباس؛ في إطار عقوباته ضد قطاع غزة، وبعد اقتطاع البنك القسط الشهري من القرض الذي كان قد اقترضه من أجل إتمام بناء منزله.

يقول جبر: "تداينت 1500 دينار أردني من شخص في بداية العام الماضي لدفع مستحقات الجامعة من رسوم ابنتي، والحصول على شهادة الجامعة، لكن للأسف نسبة 30% من راتبي ذهبت بسبب المناكفة السياسية ولم أجد وسيلة سداد، حتى دخلتُ السجن وأنا ليس لي أخ أو مسؤول قريب يتدخل لحل مشكلتي".

أما أيمن الحمامي (36 عاماً) فلم يتقاضى منذ أكثر من عامين ونصف راتباً كاملاً من حكومة غزة السابقة، وتراكمت ديونه التي أدخلته السجن مدة شهرين، وخرج بعدها ليعمل عملاً مسائياً من أجل سداد ديونه البالغة أكثر من 5 آلاف دولار.

عقوبات الرئيس ضد غزة، وعجز حكومة حماس عن دفع رواتب موظفيها، أدت إلى سجن آلاف الموظفين العاجزين إيجاد حلول لديونهم

يقول الحمامي لـ"الترا فلسطين" إن موظفي غزة هم أكبر ضحية في المناكفات السياسة بين فتح وحماس، وللحصار الإسرائيلي على غزة، مبيناً أن من لهم معارف في جهاز الشرطة يستعينون بهم لتجنب دخول السجن.

مصدر أمنى من وزارة الداخلية تحدث لـ"الترا فلسطين" مبيناً أن أصحاب الذمم المالية يتلقون معاملة خاصة داخل السجون، باعتبار أنهم لم يُسجنوا على خلفية جرائم أو قضايا فساد، ويتم تقديم تسهيلات لهم لمقابلة المحامي أو ذويهم، "على أمل التوصل إلى حل يكفل خروجهم من أزمة السجن والارتباط المالي" وفق قوله.

ويؤكد المصدر أن السجون في غزة تمتلئ بأشخاص ليس لهم أي سوابق مخلة بالنظام العام، وغالبيتهم لهم وزنهم واحترامهم في المجتمع، "لكن الإطار القانوني يجبرنا على العمل لتحصيل حقوق أصحاب الأموال".

وأشار المصدر إلى انفراجة محدودة بعد حملة "سامح تؤجر"، إذ سامح دائنون في ديونهم، وتبرعت جمعيات خيرية بتسديد الذمم المالية، لكن كل تلك الجهود لا تغطي سوى 10% من أصحاب الذمم خلال العام الماضي وبداية العام الحالي.


اقرأ/ي أيضاً:

غزة: عائلات تجاور تجمعات الصرف الصحي هرباً من الغلاء

وطّي صوتك كل غزة سمعاك

الدجاج والحبش أولاً في غزة.. واللحوم الحمراء للمناسبات