لخمس سنوات، ظل جميل الطيب (45 عاما) يتنقل بين بيوت الإيجار في مناطق متفرقة بمدينة غزة، ومخيم الشاطئ، وفي كل يوم يمني النفس بأن تتغير أسعار الشقق السكنية أو الأراضي، ويصبح قادرًا على التملك، ليجد نفسه قد دفع مبالغ كبيرة كإيجارات للمنازل التي سكنها في هذه السنوات، دون أن تتحقق أمانيه، فقرر أخيرًا أن يسكن بالقرب من وادي غزة، سيّء الذكر والرائحة.
عائلة الطيب ليست حالة فردية في قطاع غزة، فمنطقة وادي غزة مثلاً، المعروفة برائحتها الكريهة ونفاياتها المنتشرة على طول الوادي، لم تعد منطقة غير مرغوبة يهرب منها السكان، بل العكس، بدأت حدودها تشهد حركة إعمارية نشطة بعد أن وجد كثيرون من سكان غزة في رائحتها الكريهة ونفاياتها همًا أقل سوءًا من همّ غلاء الأسعار في مناطق وسط غزة، وحتى في المخيمات المكتظة سكانيًا.
يهرب كثيرون من سكان قطاع غزة إلى السكن قرب مكبات النفايات وتجمعات الصرف الصحي، بسبب ارتفاع الأسعار وشدة الاكتظاظ في مناطق أخرى
ومنطقة وادي غزة تعاني من كارثة طبيعية بسبب ضخ كميات ضخمة من المياه العادمة غير المكررة، والتي تحمل أيضًا نفايات صلبة، ما يجعل الجهات المختصة تطلق على الدوام تحذيرات من أن المنطقة تشكل خطرًا حقيقيًا، إلا أن كثيرًا من الغزيين لم يعودوا يصغون لتلك التحذيرات منذ أكثر من عام.
اقرأ/ي أيضًا: "وطّي صوتك.. كل غزة سمعاك"
جميل الطيب، مثلاً، وجد أن قيمة شراء قطعة أرض مساحتها 200 متر بالقرب من وادي غزة، وبناء منزل صغير فوقها، لا تتجاوز خمس قيمة شراء أرضٍ وسط مدينة غزة. يقول لـ"ألترا فلسطين"، إنه دفع على مدار خمس سنوات إيجارات تعادل ثمن شقة سكنية، مضيفًا، "الجميع اعتبر فكرة السكن قرب وادي غزة جنونًا، لكنها أرحم من جحيم الإيجار والكثافة السكانية، وأستطيع تفادي الروائح والبعوض".
أيمن البرش (56 عامًا)، أحد جيران جميل، سكن هو الآخر في وادي غزة قبل عام، بعد أن تعرض بيته لدمار كلي خلال العدوان الأخير على غزة عام 2014. ومنذ ذلك الحين، تنقل بين بيوت الإيجار في مناطق مختلفة وجدها غير مريحة، في حين لم تلتزم وكالة الغوث "الأونروا" بدفع "بدل الإيجار" الذي تعهدت بتوفيره للمتضررين من العدوان الأخير على غزة، لحين إعادة إعمار منازلهم.
وبدأ البرش مطلع العام الجاري، ببناء منزله بالقرب من الوادي على أرض تبلغ مساحتها 250 مترًا، اشتراها بقيمة 22 ألف دولار فقط. يقول لـ "ألترا فلسطين"، إن المنطقة مليئة بالسكان، وقد تعلم منهم طرق تفادي الأزمة البيئية مثل تدفق مياه المجاري، فقام برصف طريق أمامي كي لا يتأثر من التربة الضارة، وهي الطريقة ذاتها التي يستخدمها غالبية السكان الذين هربوا للمنطقة.
شراء قطعة أرض وبناء منزل عليها في الأراضي المجاورة لتجمعات الصرف الصحي في غزة، يكلفك خمس ثمن قطعة أرض في مناطق مكتظة وسط غزة
وعندما يقرر الغزي البناء قرب وادي غزة، فإنه يضع خطة يحاول بواسطتها تفادي دخول البعوض والروائح الكريهة للمنزل، من خلال النوافذ الشبكية، والروائح الكيماوية التي يشتريها من عطارين، وهذه تبقي رائحة المنزل جيدة.
اقرأ/ي أيضًا: أهل غزة للإسرائيليين: المجاري علينا وعلى أعدائنا
يقول البرش: "منذ أن سكنّا حذرنا سكان المنطقة من الرائحة والبعوض، والأخطر من ذلك هي الأفاعي، وقمنا بتحصين أسوار المنزل وعمل مرتفع باطون عن الأرض لكي لا نقترب من التربة".
لكن وادي غزة، هذا الذي يرتبط اسمه بالروائح الكريهة والنفايات الآن، يحمل في الأساس مكانة تاريخية كبيرة، إذ يُعد أحد أهم الأودية التي تذكرها كتب التاريخ والجغرافيا في فلسطين، وهو نهاية مجرى مائي طويل يبلغ طوله 77 كم، ينبع من جبال النقب والمرتفعات الغربية لجبال الخليل، ويمتد انتهاء إلى البحر الأبيض المتوسط، فيما يبلغ طوله داخل القطاع 9 كم.
وأعلنت السلطة الفلسطينية منذ إنشائها عام 1994، أن الوادي محمية طبيعية، لكنه اليوم تحول إلى مكب للنفايات، ومصرف لأكثر من 16 ألف متر مكعب من المياه العادمة غير المعالجة يوميًا، نتيجة توقف مشاريع إصلاح المياه والبنى التحتية، بسبب الانقسام الفلسطيني، وفقًا لما أفاد به المختص في الشؤون البيئية أحمد حلس.
إلى جنوب القطاع ووسط مكبات النفايات ومياه الصرف الصحي، في منطقة نهر البارد، هربت عائلة أيمن صالح (39 عامًا) من غلاء الأسعار، فبنت منزلاً لها في المنطقة، رغم أنها لا تحتوي على أي شبكة صرف صحي، وتعتمد على الآبار الامتصاصية شديدة الضرر على التربة والمياه الجوفية.
خطوة صالح شجّعت اثنين من أقاربه على البناء في المنطقة. يقول صالح لـ"ألترا فلسطين"، إن جميع المناطق في غزة أصبحت غالية الثمن الآن، وسعر أرخص قطعة أرض في منطقة عادية يبلغ 70 ألف دولار، فيما تزيد أسعار الشقق العادية عن 50 ألف دولار، ما جعله يفضل تحمل الظروف الطبيعية على أعباء القروض المالية التي سيتكبدها لو اشترى منزلاً أو شقة خارج حدود قدرته.
الخبير الاقتصادي نشأت الصادي، يؤكد أن الأزمات السكانية في غزة دخلت في مراحل كارثية، في ظل غياب أي تدخل للتخفيف من ثقلها، خاصة أن المخيمات لم تعد تتحمل أي بناء جديد فيها، هذا عدا عن أن مناطق كثيرة لم تعد مرغوبة للسكن بسبب خطورتها وتعرضها للقصف بشكل متكرر، مثل المناطق المجاورة لمواقع المقاومة، والمناطق المجاورة للسياج الفاصل مع الأراضي المحتلة عام 1948.
مناطق كثيرة في غزة يخاف السكان الإقامة فيها بسبب القصف الإسرائيلي المتكرر الذي يستهدف مواقع للمقاومة فيها، أو بسبب قربها من السياج الفاصل
ومع نهاية عام 2016، تجاوز عدد سكان قطاع غزة مليوني نسمة، فيما لا تتجاوز مساحته 360 كم، ما يجعله الكثافة السكانية فيه هي الأعلى في العالم، فيما تبلغ نسبة الأراضي الزراعية فيه 2% فقط.
ويوضح الصادي لـ"ألترا فلسطين"، أن أزمة السكن تضاعفت وبلغت حدًا كبيرًا من الخطورة بعد عدوان 2014، مبينًا، أن نسبة عالية من العائلات لا تملك المبالغ الطائلة المطلوبة في سوق العقارات، ما يدفع الكثيرين إلى المجازفة والسكن في مناطق ضارة بيئيًا، وهم يأملون أن تتحرك الجهات المعنية مستقبلاً للإصلاح البيئي في تلك المناطق.
وكان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" من التداعيات الاجتماعية والصحية والأمنية للكثافة السكانية العالية، والاكتظاظ من بين العوامل التي قد تجعل غزة غير قابلة للحياة بحلول عام 2020.
اقرأ/ي أيضًا:
طلاب أجانب في غزة: هنا ما يستحق الحياة
صور | جدران غزة.. حُب وغضب وأشياء أخرى
بالصور | غزة.. هل يزيل الفن آثار العدوان؟