26-أكتوبر-2017

فلسطينيّ من غزة، يستمع إلى الأخبار عبر الراديو (2003). تصوير: Abid Katib/Getty Images

قبل 15 سنة تقريبًا، أثناء الانتفاضة الثانية، ناقش الإسرائيليون سرّ تماسكنا، في برنامج تلفزيوني طرح المذيع الإسرائيلي السؤال التالي: لماذا لم يتفكك المجتمع الفلسطيني بعد العمليات الإسرائيلية داخل المدن (الاجتياحات)؟ لماذا لم يخرج المواطنون لسرقة المحلات أثناء وبعد منع التجول مثلما يحدث عندما تنقطع الكهرباء عن مدينة أمريكية؟

المحلل السياسي الإسرائيلي لحظتها قال: إن علينا الاعتراف أنّ الفلسطيني يسند ظهره على شيء ما يمنعه من الانكسار!

 هل انكسرنا؟ أم هل أصبحنا أكثر قابلية للانكسار بحيث تكثر ندوات ومؤتمرات ومبادرات السلم الأهلي ونشر ثقافة التعايش

اليوم، وفي ظلّ النمو الفطري لكل ما له علاقة بالسلم الأهلي وثقافة التعايش، علينا أن نطرح السؤال الأهم الذي مفاده: هل انكسرنا؟ أم هل أصبحنا أكثر قابلية للانكسار بحيث تكثر ندوات ومؤتمرات ومبادرات السلم الأهلي ونشر ثقافة التعايش بين أبناء الشعب الواحد؟

هل تغيّر الفلسطيني؟

في ضوء ذلك، علينا أن نقرّ أن مفهوم التعايش، والسلم الأهلي هو مفهوم جديد علينا، هو زائر جديد على أجندات المؤسسات الأمنية ومؤسسات المجتمع المدني ووجهاء المدن ورجال الإصلاح العشائري، لا أعتقد أننا مثلًا خلال فترة الانتفاضة الأولى كُنّا بحاجة لهذا المفهوم، كان يمكن أن يكون الحديث عنه في تلك الفترة، مستهجنًا ومصدرًا للسخرية.

ليكون السؤال الجوهري الذي علينا التصدي له: لماذا أصبحنا بحاجة إلى تكريس السلم الأهلي وتعميق ثقافة التعايش، ويلزم ذلك مؤتمرات وندوات وورش عمل؟ وهل تغيّر الفلسطيني؟ وفي حال كان الجواب "نعم"، ما هي أسباب هذا التغيّر؟

السبب ببساطة يتمثّل في أنّ هناك جملة من التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية دفعت إلى تغيّرنا/ اختلافنا في العشرين سنة الماضية، تحديدًا بعد أوسلو وما أحدثت من تحوّلات في المشروع الوطني والهوية الوطنية برمتها، وتعريف الفلسطيني لذاته.

تلك التحولات الكثيرة والعميقة وأحيانًا الجذرية التي طالت تعريفنا لأنفسنا، يفترض أن تتصدى لها الصحافة ووسائل الإعلام، ليس بهدف منعها، فهذا ليس دورها، إنما جعلها مادة للنقاش العام، بحيث تقدم الرؤى حولها، وتتم التوعية بطبيعتها ومنح المواطنين تفسيرات لها، هذا هو واجب الصحافة الذي لا تقوم به للأسف، لاعتبارات كثيرة، هذه الحقيقة أو هذا الدور الذي يغفله الصحفيون أمام العادي والسريع والرتيب الذي يقومون به يوميًا ليجعلوا من وسائل إعلامنا منتفخة بمنشورات العلاقات العامة.

 التحولات الكثيرة والعميقة وأحيانًا الجذرية التي طالت تعريفنا لأنفسنا، يفترض أن تتصدى لها الصحافة ووسائل الإعلام، ليس بهدف منعها، فهذا ليس دورها، إنما جعلها مادة للنقاش العام

وبالعودة إلى دليل أخلاقيات المهنة للصحفيين الصادر عن "مؤسسة طومسون رويترز" نجد عنوانًا رئيسيًّا متعلّقًا بأدوار الصحفي تجاه جمهوره، ويمكن تلخيص أبرز هذه الأدوار وتحديدًا تلك المتعلقة بموضوعنا كالتالي:

أولاً: شرح الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتفسير القضايا المعقدة التي تؤثر على أسلوب حياتنا.

ثانيًا: الفحص الدقيق لعمل أجهزة الحكومة والقضاء.

ثالثًا: اجتثاث الفساد وإساءة استغلال السلطة.

والأدوار الثلاثة السابقة غائبة في أغلب صحافتنا الفلسطينية، وبالتالي تكون النتيجة المُرّة أنّ المواطنين يعيشون التحوّلات بكل تفاصيلها من دون أن يعوها أو يدركوا طبيعتها وحجمها، نستنكر حوادث القتل مستغربين الأسباب، ونهاجم القاتل من دون أن نعي البيئة التي يعيش فيها، ولا الظروف التي دفعته لجريمة القتل أو التناحر العائلي مثلًا، نلوم أنفسنا ومجتمعنا، نكرهه، ونحلف أغلظ الأيمان أن هذه التصرّفات لا تمت لنا بصلة، ولا تعبّر عن قيم المجتمع ذاته. ولكن من دون نتيجة، بل يتعمّق التعصّب والكره وممارسات القتل المتوحشة ونتطرّف فكرًا وممارسة، ويتدنى معدل احترامنا للقانون ونفقد إيماننا فيه.

موت الصحافة!

أمام هذا التقصير الإعلامي المعيب يأت البعض ليناقش دور الإعلام في حفظ السلم الأهلي، من دون أن يعي ما يجري من تحوّلات عالمية ومحلية قلصت من قدراته إضافة إلى تقصيره الثابت والمشهود والمرصود، فمع تصاعد ونمو أنماط مختلفة ومتنوعة من تكنولوجيا الاتصال الحديثة يتراجع دور الوسائل التقليدية في حفظ السلم الأهلي في أوقات النزاعات والصراعات والمشاكل الداخلية.

اليوم يُبحث عالميًا وحتى عربيًا مسألة "موت الصحافة" وهو مفهوم طفى على السطح من سنوات وتحديدًا عندما تغوّلت شبكات التواصل الاجتماعي على كل ما له علاقة بالعمل الصحفي حتى جعلته ثانويًا وهامشًا، لقد أصبح الناس وما ينتجونه هو المركز أو المتن، والعمل الصحفي على علاته هامشًا.

هُنا علينا الاعتراف أنّ بحث دور وسائل الإعلام في حفظ السلم الأهلي أمام المشاكل السابقة سيكون في أدنى مستوى له، أمام تنامي دور منصات شبكات التواصل الاجتماعي، التي تنتج خطابات كثيرة يجب أن تدرس وتكون في مقدمة الأمور التي يفترض بحثها.

موت النخب التقليدية

إلى جانب موت الصحافة فإن الواقع يخبرنا بـ "موت النخبة التقليدية"، وسواء قبلنا أم رفضنا ذلك فإن أكبر تحوّل نعيشه اليوم ويؤثر على عمل وسائل الإعلام المختلفة وحتى على الجماهير والقضايا الكبرى، أنّ المرجعيات التقليدية والنخب التي أخذت مرجعيتها وشرعيتها من النظام العام القائم قد آفل أو في طريقة إلى الآفول. فقد تراجعت النخب والمؤسسات ذات التأثير المجتمعي التقليدية عن القيام بمهامها المرتبطة بحفظ السلم الأهلي، وأصبح ظهورها في وسائل الإعلام التقليدية عبثيًا، والحقيقة اختلاف المؤثرين وتغيّرهم، وتكرّس مؤثرون وصنّاع رأي عام غير مسيطر عليهم تقليديًا، حتى أن البعض ينظر لهم بطريقة فيها من الاحتقار وعدم الاعتراف أكثر ما فيها من الحقيقة والمنطق.

بمعنى، أن المختار، رجل العشيرة أو العيلة، شيخ الجامع، الأكاديمي، المسؤول الرسمي التقليدي، والشاعر... الخ الذي شكلوا تاريخ النخبة أو الصفوة وكان لهم التأثير على الناس من خلال الحديث المباشر أو من خلال ظهورهم في وسائل الإعلام أصبح/ أو سيصبح في سياقنا الفلسطيني قريبًا جدًا مفهومًا غائبًا مع ظهور مؤثرين أو نخب جديدة من الشباب، وهي تنشط على شبكات التواصل الاجتماعي.

الكراهية، مسؤولية من؟

أمام كل ذلك هل يتحمّل الإعلام مسؤولية ما عن انتشار ثقافة الكراهية والاقتتال والاحتقان والتعصب؟

مبدئيًا؛ لا يفترض أن يتحمّل الإعلام هذه المسؤولية، لكنّه في مرحلة ما ربما بالمرتبة الثانية أو الثالثة يتحمّل المسؤولية لاعتبارات كثيرة ومنها أنّه لا يقوم بدوره المهني كما يجب. فهو لا يفسّر التحوّلات كما تحدّثنا سابقًا، وهو مقصّر في طرح ما يتعلق بحياة الناس ومصادر كدرها، هو إعلام جبان ومسالم ومساير، وهذا جعله وسيطًا أو مكانًا تبث فيه مواد تكرس مفاهيم وأمراض كثيرة وبالتالي لا يدعم السلم الأهلي، والأخطر أنّه أصبح مهجورًا من شرائح وفئات مجتمعية كثيرة (تحديدًا فئة الشباب) بسبب ضعفه وجبنه وعدم ثقة الناس فيه، وللتحوّلات التكنولوجية التي كرّست أنماطًا إعلامية أكثر جذبًا للمستخدمين ترافقت مع تدني ثقة الجمهور في مصداقية وسائل الإعلام حتى وصلت لأدني مستويات لها، وفلسطين ليست استثناء من ذلك.

هنا علينا الاعتراف أننا جزء من منطقة عربية مليئة بالعنف ودعوات القتل وهو أمر أصابنا ونعيش تداعياته لحظيًا حتى وإن ظن البعض أنًه بعيد عنّا ولن نجرّب ويلاته، وهذا ظنٌّ خائب يجانب الصواب، ومصدره نخب تتقن رفع الشعارات التي فقدت بريقها، وأفقدت روح المجتمع القدرة على الرؤية الحقّة، ومن ثم الفعل المطلوب، والإعلام ليس بريء من ذلك، وتلك مصيبة كبيرة.


اقرأ/ي أيضًا:

الإعلام المُموَّل أجنبيًا.. الحاجة والحَذَر

تعامل السلطة مع الإعلام.. محاولة لفهم الجنون!

نحن والإعلام الإسرائيلي.. ثلاث ملاحظات