30-أغسطس-2017

لازلت أتذكر صوت هدير الطائرات العمودية وهي تحلق في سماء جبل عيبال القريب من البلدة، فيما بدت سماء المنطقة مضيئة بفعل قنابل الإنارة. كنت أرقب المشهد من شرفة منزلنا فيما كانت عيني الثانية على قناة الجزيرة تنقل الأخبار العاجلة أولاً بأول.

كان ذلك في ليلة الخامس والعشرين من شهر آب/أغسطس لعام 2000، قبل أشهر من نهاية الألفية الثانية، وقبل بداية انتفاضة الأقصى بأسابيع قليلة. تسللت حينها تحت جنح الظلام، قوة من وحدة الدوفدفان الإسرائيلية المختارة لبلدة عصيرة الشمالية، تساندها عشرات المركبات والآليات، محاولةً اعتقال أو اغتيال قائد القسام في الضفة محمود أبو هنود، المطلوب رقم واحد للمخابرات الإسرائيلية بتهمة تنفيذ عدد من العمليات، كان آخرها التفجير المزدوج في سوق "محينا يهودا" في القدس منتصف العام 1997، التي نفذها أربعة من أبناء البلدة، إضافة للشهيد خليل الشريف.

وحدة نخبة إسرائيلية معززة بطائرات حاولت اغتيال أبو هنود، لكنه قتل ثلاثة جنود وانسحب مصابًا حتى سلم نفسه للأجهزة الأمنية التي اعتقلته

حاصرت القوات الإسرائيلية أحد المنازل، ثم طلبت عبر مكبرات الصوت من أبو هنود تسليم نفسه، غير أنه نجح في الإفلات من قبضتهم بعد أن قتل ثلاثة وجرح تسعة من "نخبتهم الورقية"، فيما أصيب هو بجروح متوسطة.

اقرأ/ي أيضًا: العياش في حارتنا

ضغط أبو هنود على جراحه وواصل سيره عبر جبال ووديان القرية التي كانت تعرفه جيدًا، كانت الأرض تُطوى من تحت قدميه، فيما أخذت الاشجار تسانده ويتكأ عليها، فيما كانت الصخور له خير درع وحامي، وأنفاس الليل كانت تغطي على أنفاسه القوية، أما الليل فضاعف من سواده؛ وحجب القمر بعضًا من ضيائه. كانت الأشياء من حوله تشد أزره وتدعوه لمواصلة الهرولة، كانت تقول له إياك أن تسقط، واصل المسير، لا تُشمّت بنا الأعداء.

ومع ساعات الفجر وصل أبو هنود نابلس، وهناك سلم نفسه للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي قدمته اعتقلته وقدمته للمحاكمة. أصدرت محكمة "شكلية" بحقه حكمًا بالسجن 12 عامًا، بتهمة تنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية، وحيازة أسلحة غير مشروعة. بدا أبو هنود واقفًا في قاعة المحكمة ممسكًا بالقضبان الحديدة كما الزناد، وإلى جانبه يقف عسكريان، كان مبتسمًا ومرتديًا بدلة زرقاء، واثقًا أنه لن يمكث في سجنه طويلاً وسيعود لمكانه الطبيعي في ساحات النزال.

بقي أبو هنود معتقلاً في سجن مقاطعة نابلس شرق المدينة، وخلال فترة احتجازه هناك اعتاد والدي وعدد من قيادات الحركة الإسلامية زيارته في سجنه للاطمئنان عليه ومؤازرته وشد عضده. وفي إحدى هذه الزيارات، تحدث أبي مع والديْ أبو هنود يرفع معنوياتهما ويحثهما على الصبر. قال مخاطبًا والدته: "يا حجة إبنك بين أهله وإخوانه ماكل شارب نايم"، (قالها متهكمًا بالطبع). رفعت الوالدة يديها إلى السماء وقالت على مسامع قادة الأجهزة الأمنية: "الله يجعل هالسجن خرابه .. دار الظالمين خراب".

خلال اعتقال أبو هنود لدى أجهزة الأمن، دعت أمه: "الله يجعل هالسجن خرابة". بعد أشهر قصفت طائرات إسرائيلية السجن ونجا القائد من الموت بأعجوبة

دارت الأيام، وبعد أشهر قليلة من اندلاع انتفاضة الأقصى، شنت طائرات حربية إسرائيلية من نوع F16 غارة على مقر المقاطعة مستهدفة القسم الذي كان يتواجد فيه أبو هنود، غير أنه نجا من الموت بأعجوبة، حيث شُوهد يخرج من تحت الأنقاض ومن بين الركام، وقد بدا أبيضًا من الغبار كبطل يكمل الجزء الثاني في مشهد سينمائي هوليودي.

أسفرت عملية القصف عن استشهاد أكثر من 15 عنصرًا من قوات الـ 17. لازلت أتذكر في ذلك اليوم مشهد الجرافات وهي تنتشل الجرحى وجثث الشهداء، كانوا كإبرة في كومة  من الدمار، في حين تجمع آلاف المواطنين في المكان، وهو ما منع قائد الطائرة الثانية من إلقاء صاروخ آخر على السجن.

بعد عدة أشهر تمكنت الطائرات الإسرائيلية من اغتيال أبو هنود؛ بالقرب من بلدة طلوزة القريبة من نابلس. كان ذلك في شتاء العام 2001، بعد أكثر من 7 سنوات من المطاردة، تمكن خلالها من إيقاع الأذى بالاحتلال ووحداته المختارة.

استُشهد أبو هنود بعد أن أصابه صاروخ بشكل مباشر عندما حاول الترجل من سيارته، فحوله والأخوين حشايكة إلى أشلاء، هذه الأشلاء كانت أشبه ببذور جهاد تناثرت في أودية وجبال ونابلس، نمت البذور فيما بعد وتحولت إلى أشجار مباركة. ألم يقولوا إن حبوب سنبلة تموت تملئ الوادي سنابل؟

في اليوم التالي خرج الآلاف على دوار نابلس في وداع البطل، دون أن يكترثوا لغزارة المطر وبرودة الشتاء، وُضعت بقايا جسده في صندوق لُفَّ براية التوحيد، وصور له وهو يحمل الـ M16 القصيرة على كتفه، واقفًا حينًا كالطود الأشم، وجالسًا حينًا كالليث المتأهب، كان النعش يتمايل بين أيدي المشيعين كأنه قارب يجري في بحور دموع المودعين، كان خفيفًا بين أيديهم، إلا أنه كان ثقيلاً بالعز راسخًا بالفخار. ترجل أبو هنود بعد رحلة طويلة حافلة بالمقاومة، كان لسان حاله يقول: "أخي إن صدقت محبتي فاحمل سلاحي".

في ذات اليوم، شاهدت صديقي وزميلي في الجامعة الشهيد عاصم ريحان، ابن قرية تل، كانت عيونه فائضة بالدمع حزنًا، محمرّة كالجمر، عانقني عناقًا شديدًا وهمس في أذني متوعدًا بالثأر. قالها بالعامية: "والله لنفضح عرضهم". لم أكترث لهذه الكلمات، وظننت أنه قالها في ساعة حمية كحال بقية المشيعين الغاضبين، غير أن الرجل كان أول الثائرين لدماء أبو هنود، بعد عدة أيامٍ فقط من اغتياله، من خلال عملية مستوطنة "عمونئيل الأولى" التي برّ  بها الريحان بوعده.


اقرأ/ي أيضًا: 

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه

فارس المرمى يحرس الجنة!

اغتيال عند باب الأسباط