بعد مضيّ سنة على بدء حرب الإبادة الإسرائيليّة على قطاع غزة، وأشهر متتالية من الحصار والتجويع، يواصل الاحتلال مجددًا إشهار سلاح "الإبادة الصامتة" بانتهاج سياسة التجويع ومنع دخول المساعدات وتدمير البنية التحتية والأراضي الزراعية لتغييب الأصناف الأساسية من الطعام، تحديدًا في شماليّ قطاع غزة.
اختفى الطحين فاضطررنا لأكل الشعير، ومسحوق ذرة الصويا، والأعلاف الحيوانية، وحين توفّر الطحين لاحقًا، لم يكن لدينا ما نأكله إلى جانبه
نهاد أبو طبيخ (56 عامًا)، واحدة ممن عاشوا المجاعة وسط جباليا. تقول إنّ صعوبة الأحوال التي مرت بها أجبرتها على تناول طعام الدواب والطيور غير الصالحة للاستهلاك الآدمي في سبيل سدّ رمق عائلتها المكونة من 17 فردًا، وذلك بعد انقطاع الدقيق وارتفاع ثمن المتوفّر في الأسواق.
أكلنا الأعلاف!
في شهر كانون الثاني/ يناير 2024، اختفى الطحين فاضطررنا لأكل الشعير ومن ثم مسحوق ذرة الصويا ومن ثم الأعلاف الحيوانية وطعام الحمام، كما حاولنا أكل الشّعير رغم تأثيره السلبي على صحتنا لصعوبة هضمه وانعدام نظافته. تقول نهاد لـ الترا فلسطين، وهي تبدي قلقها على حفيدتها الرضيعة التي تعاني من كسل في الأمعاء، وضمور في النموّ، أدخلها المستشفى جرّاء ثبات وزنها الذي لم يتجاوز 7 كيلوغرامات، بالتوازي مع انحسار خياراتهم الغذائيّة جرّاء اشتداد وتيرة الحصار هذه الأيّام.
ونوّهت نهاد إلى اقتصارهم هذه الأيّام على تناول وجبة واحدة في اليوم، أساسها رغيف من الشعير، مع بعض الأرز إلى أن اختفى تمامًا من السوق، في الوقت الذي أعدم الاحتلال مصادر الدخل في القطاع.
وأضافت "لما بدأ الطحين يدخل الشمال كان يعادل الروح، فإما أن يرجع الشخص بكيس طحين أو في تابوت، لهذا منعت أولادي من المخاطرة". وتشير إلى أنّهم اضطروا لأكل السليق والحمّيض والخبيزة وورق الفجل، وإعداد السلطة من الخرفيش والقرّيص رغم معرفتهم بأنّها مُضرة ولكن "كنّا بدنا نكابر ونعيش".
واشتكت نهاد من غلاء أسعار الخضار التي غابت عن شماليّ القطاع طوال فترة المجاعة، واضطرارها إلى الاعتماد على المساعدات الإغاثية لا سيما المعلّبات كغذاء أساسي تسبب في انتشار وسوء التغذية بين أفراد العائلة.
ولفتت إلى معاناة ابنتها علا (23 عامًا) من بكتيريا في المعدة، الأمر الذي فاقم من أثر المعلبات على صحتها، مشددةً على أن إدخال المعلبات لم يحل قضية المجاعة بل حافظ على استمرارها بمنهجية تعمّد الاحتلال فيها خنق أهالي شمال القطاع في ظل رفضهم للنزوح جنوبًا.
تربة زراعية تالفة
وأشارت إلى أنها اضطرت لتناول الخبز المغمّس بالملح للمحافظة على صحتها، مع معاناتها من الغضروف والقلب والمرارة وغياب العلاجات، كما لجأت ابنتها علا إلى الزراعة البديلة لإنقاذ نفسها لتنجح بعد عدة محاولات فاشلة نتيجة تلف التربة، بسبب امتصاصها القنابل الغازية والفسفورية التي ألقاها الاحتلال على الأراضي إلى جانب شُحِّ مياه الريّ وغياب الأسمدة.
أما عن سامية عطا الله (68 عامًا) فقد كان لها تجربة أخرى مع ابنها مرشود (43 عامًا) الذي قتلته المجاعة بعد تسببها في إصابته ببكتيريا في المعدة بفعل تناوله حشائش الأرض في ظل معاناته من مرض الصرع ونقص الدواء اللازم لعلاجه.
تقول سامية لـ الترا فلسطين: خلال المجاعة أصيب ابني مرشود بنزلة معوية بعد تناوله لنبات الحُميّض ودقيق الذرة وبدأ يعاني من مضاعفات على شكل إفرازات ولعاب وإسهال شديد، دخل على إثرها المستشفى ومكث عدة أيام تحت المحاليل ومن ثم تبين إصابته ببكتريا في المعدة ومنعه الأطباء من تناول كل بدائل الدقيق من شعير وذرة وحشائش.
وتضيف: "كان قلبي يتقطّع على ابني، وما زاد قهري وجود الفلوس وغياب البدائل، وحين مرض عاهدت نفسي أن لا أطبخ الحميض مرّة أخرى"، موضحةً أن ملامح الإعياء غيّرت معالم وجهه، وأصابه النحول، عدا عن إرهاقه الدائم، وجلوسه كلما مشى خطوتين.
كما أشارت إلى لجوء ابنها للجلوس تحت أشعة الشمس في محاولة لتحصيل الفيتامينات وصرف الشعور بالتعب، لافتةً إلى أنه "كان يحاول أن يعيش ويتقوى، لكن غياب الطعام أجبره على العيش قرابة شهر ونصف على المياه فقط إلى أن توفي".
وأوضحت أنها مرت بأيام صعبة كان أشدها عند اجتماع المجاعة مع حصار الاحتلال لمنزلهم في مربع اليرموك غرب غزة، وقد معظم وقتهم حينها بلا أكل ولا شرب ولا غسيل ولا استحمام.
أمّا تغريد عطا الله (48 عامًا) فلا تستطيع كتمان وجعها الكبير على نجليها اللذان أصيبا بجراح متوسطة خلال محاولتهما جلب الدقيق للمنزل، وتوجههما إلى دوار الكويت في الجنوب الشرقي لمدينة غزة بدافع قتل الجوع بتحصيل "كيس طحين" بعد طول انقطاع وارتفاع ثمنه إلى قرابة الـ 1000 دولار.
ولفتت إلى أنّها تتحايل على الجوع بإعداد وجبة يومية من "السماقية الكذابة"، والمكوّنة من الحشائش، أو أقراص معجون الذرة المقلية بكلفة الفلافل، أو حلوى المهلبية المكونة من المياه والنشا والصبغة والقليل جدًا من السكر، وتشير إلى أن كل هذه المحاولات لمقاومة الجوع لم تكن لتُقيت الإنسان، تحديدًا بعد نفاد الأرز من الأسواق.
مغامرات ضد الجوع
وعن مغامرات فاطمة أبو عاصي (25 عامًا) لمحاربة الجوع فقد بدأت بتوجهها إلى مفترق النابلسي القريب من منزلهم بمنطقة غرب غزة لتحصيل "كيس طحين" تمام الخامسة فجرًا في أحد أيام شباط/ فبراير الماضي بعد علمها بوصول شاحنات المساعدات، لتنجح ووالدها بشرائه من أحد المارة بأكثر من 100 ضعف ثمنه في أيام السلم.
وحول مسار التدبير خلال المجاعة، تقول فاطمة: "لما انقطع الطحين كنّا نحاول أن ندبّر أمورنا بالأرز ثم دخلنا إلى منازل أقاربنا النازحين للجنوب وأخذنا الطحين الموجود فيها وأكلناه رغم ما فيه، وبعدها أكلنا طعام الدواب، ومن ثم لجأنا للحشائش".
تقاطعنا أختها الصغيرة مريم (16 عامًا) والتي شاركتها في رحلة جمع الأعشاب والحطب تحت تهديد القصف، بقولها: "صار عندي ضيق تنفس بسبب تناول الشعير، وكنت أستيقظ ليلًا وأصرخ، فمنعني الأطباء من تناول الشعير والزيوت، ولجأت إلى المكسرات وحلوى السمسمية والفستقية، ووقتها خسرت الكثير من وزني".
عزَّ حال مريم عليها فرسمت خطة إنزال من نافذة المنزل بالتعاون مع فاطمة لجلب القليل من المواد التموينية من شاحنات المساعدات في تمام ساعه 12 مساءً ونجحت في التسلل إلى خارج المنزل، مضيفةً "حصلت على علبة حلاوة وكل يوم كنت أتناول لقمة كي أعيش"، لافتةً أنها وفاطمة واجهتا خطر المزاحمة وتسلّح البعض بالأدوات الحادة.
من جانبها لم تتوقف فاطمة عن السعي لجلب الطعام لعائلتها المكونة من 20 فردًا بعد نزوح عائلتها قسرًا إلى حي الصبرة شرق غزة، مشددةً على تحفيز مكان تواجدها باعتباره ممرًا لدخول شاحنات المساعدات لسعيها، لافتةً أنها حصلت ذات مرة على كنز وهو عبارة 3 كيلوغرامات من الدقيق وعلبة من اللحم لم تسعهم الفرحة به.
تضيف فاطمة "الاحتلال نفّذ عقابًا جماعيًا، وإلى الآن نعاني من غياب الأطعمة كونه مستمر في حربه الشرسة ومنعه لدخول الخضار وحصره للمساعدات في المعلبات اللي ما شعرنا بأثرها؛ لأننا كنّا متعطشين، لكن بعد أكثر من شهر بدأت الأمراض تنتشر بين الناس وفي مقدمتها التهاب الكبد الوبائي".
وبيّنت فاطمة أنها لجأت إلى الزراعة البديلة بجلب بذور النباتات والبحث عبر الإنترنت عن سبل رعايتها، مضيفةً "زرعت الباميا والملوخية والجرجير في الحديقه الخلفية لمنزلنا في حي الرمال غربًا، وكنت أذهب هناك بشكل دوريّ من مكان نزوحي بشرق غزة إلى المنزل لسقاية النباتات رغم شح المياه، واشتريت الأسمدة من مصروفي الشخصي حتى جنيت أول قطفة بعد قرابة شهرين من العناية".
وبالاتجاه لمنطقة حيّ الدرج تقول روضه السحلوبي (35 عامًا)، وهي أمّ لخمسة أبناء، إنّه وخلال ذروة المجاعة مرّت بها وبأولادها أيام بالغة القسوة، إذ كان أبناؤها يبكون؛ لأنه ليس هناك ما يسد رمقهم، ما اضطرّهم لطحن الشعير وخبزه وقلي معجون مسحوق الذرة والعلف كأقراص الفلافل، وفقد زوجها ابنه عند مفترق وصول شاحنات المساعدات خلال محاولته إحضار كيس طحين.
ليس لدينا المال لنشتري
وأضافت: "كل شيء كان غالي الثمن، حتى الأرز والبدائل، لدرجة أني قضيت أغلب أيام رمضان لا أفطر إلا على الماء ومن ثم أكمل صيامي، وإذا ما تمكنت من جلب أي شيء من أهل الخير أقدّم أولادي على نفسي رغم أني مرضعة وبحاجة لكل عنصر غذائي، الأمر الذي تسبب في انهياري".
وأضافت: "اعتمدنا بشكل أساسيّ على ما يقدّمه الناس، وحين دخلت المعلبات أيضًا لجأنا إليها بدون إدراك لأثرها السلبي على صحة أبنائنا بسبب الجوع". وأشارت إلى أن الجفاف والحساسيّة أصابا أبناءها، ما سبب لهم ندوبًا وتقرّحات، وتوقعت من شدة يأسي أن نموت.
وفي مرحلة لاحقة، تقول روضة إن شدّة الحصار اضطرتها لتناول الخبز فقط، بلا أي أصناف أخرى. مشيرةً إلى أن الطحين توفّر بكثرة، دون أي أصناف أخرى معه، وبالطبع الخضار ظلّت غائبة لغلاء ثمنها، كما أنها لا تصل إلى السوق من الأساس، لعدم توفّر المال معها، وعدم مقدرتها على شراء الأصناف المتوفّرة.
المجاعة لم تفارقنا لتعود
ولا تخفي "روضة" تخوّفها من عودة المجاعة واشتدادها شمال القطاع، مع فرض الاحتلال لحصار جديد بالتوازي مع اقتحام جباليا، ما يؤشّر إلى عزم الاحتلال تنفيذ خطة لإخلاء شماليّ قطاع غزة وتجويعه.
وفي آخر تصريح له، قال المفوّض العام لوكالة أونروا، فيليب لازاريني، إن أكثر من 400 ألف شخص ما يزالون محاصرين في شمال غزة، والنظام الصحي هناك انهار بالكامل.
وكان برنامج الأغذية العالمي أكد على وصول سكان قطاع غزة درجة "الكارثية" ضمن أعلى تصنيف للمجاعة وهو الأكثر خطورة، إذ بات 95 في المئة من السكان يعانون درجات متنوعة من المجاعة مع استمرار الحرب.