17-يوليو-2022
محمد جبارين (60 عامًا)، يقف على نافذة منزله في قرية جنبا، وهي جزء من منطقة مسافر يطا في الضفة الغربية - HAZEM BADER/Getty

محمد جبارين (60 عامًا)، يقف على نافذة منزله في قرية جنبا، وهي جزء من منطقة مسافر يطا في الضفة الغربية - HAZEM BADER/Getty

الأشجار والقبور دليلان على وجود سكان عاشوا وما يزالون في بقعة جغرافية في فلسطين المحتلة، والحياة في الكهوف تأكيد على ملكية الأراضي وعدم تركها للمستوطن الغريب، وقيمة الإنسان مرتبطة بالبيت، وقد يشعر بفقدانها أو بالتهديد وعدم الراحة إذا هدم أو أخرج منه، والأحلام ضبابية لا تعرف مخرجًا نحو الواقع. هذا ما تلمسه من كلام الأهالي في تجمعات مسافر يطا جنوب الخليل في الضفة الغربية، فتسمع من أحدهم أن قبر جدِّه موجود هُنا وقبره سيكون هنا أيضًا، كدليل على استمرارية الوجود ردًا على ادّعاءات الاحتلال بأن المناطق خالية من السكان.

في مسافر يطا، الحياة في الكهوف تأكيد على ملكية الأراضي وعدم تركها للمستوطن الغريب، وقيمة الإنسان مرتبطة بالبيت

وقد رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية في الرابع من أيار/ مايو الماضي التماسًا ضد إخلاء 8 تجمعات في منطقة إطلاق النار بمسافر يطا وهي: جنبا، المركز، الحلاوة، الفخيت، التبان، المجاز، اصفي الفوقا والتحتا، خلة الضبع، ما يجعلهم مهددين بخطر الترحيل القسري.


اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. هذا ما يجري في مسافر يطا


اجتمعت أنا وزميلتي رند بدر مع نسوة في تجمّع (خلة الضبع)، تقول إحداهن: نحن صامدون في الأرض ولن نخرج منها، شقيق زوجي عمره 80 عامًا، وُلد في التجمّع وقال إن قبره سيكون فيها وكذلك زوجي، قبورنا ستكون هنا فلا يوجد بديل. هذا بيتنا وهذه أرضنا إما نموت فيها أو نعيش.

وتكمل: الهدم بدأ عندما انتقلنا من العيش في الكهوف إلى بناء غرف قبل نحو 10 سنوات بدعم من مؤسسات بعد أن عرفت طريقنا، حيث كُنّا في البداية مهمشين، فقلنا لها عن مطالبنا بإنشاء غرف وحمامات ومطابخ ومدرسة. والشجر يثبت أننا كنا نعيش في المغر ونزرع ونفلح الشجر، ونقطف الزيتون والعنب.

وتضيف امرأة أخرى: زوجي ولدته أمّه في هذا التجمع وأعيش في خيمة معه ومع أولادي التسعة (خمس بنات وأربعة أولاد)، وقد قلعت حجارًا من الأرض وعملت "عريشة" وأمنيتي أن يكون لديّ مطبخ مثل باقي النسوة.

تصوير: بثينة سفاريني
صورة من تجمّع مغاير العبيد (بثينة سفاريني) 

وتوضح: هُدم بيتنا ثلاث مرات وفي المرة الرابعة عندما أحضرنا مواد البناء أتلفتها جرافات الاحتلال، أما شقيقيّ زوجي فقد هدم بيتهما أربع مرات. الحياة مُرّة، ولكن لن نغادر حتى لو متنا.

في المسافر تدرك معنى الروتين وأفعالك الاعتيادية التي لم تلقِ لها بالًا وبطريقة ما تبدأ بالمقارنة، لا سيما عندما تسمع وترى أيضًا الجنود المشاة والدبابات وهدم الغرف المبنية من الصفيح والعيش في الكهوف لحماية الأراضي والدفاع عنها، كما الحال في مغاير العبيد.

الحياة مُرّة، ولكن لن نغادر حتى لو متنا 

وتقول امرأة التقيت معها: يوجد ثلاث عائلات في هذا الكهف، أنا وزوجي وعائلتي ووالده وشقيقه، حيث عدنا إليه بعد أن هدم الاحتلال الغرف التي بنيناها وسكنا فيها لقرابة شهر فقط. ونعتمد هنا على رعي الأغنام، ونعاني من اعتداءات المستوطنين على الرعيان مثل ما حدث مع شقيق زوجي.

وفي نفس المغارة جلست مع رشا التي ستنتقل إلى الصف العاشر مع بداية السنة الدراسية: أحب أن أعمل في التجميل، وأذهب أنا وشقيقتي ونلتقي مع طلبة في تجمع (طوبا) ونذهب جميعًا إلى المدرسة في قرية التواني. أريد أن أكمل تعليمي وأصبح مثل شقيقاتي بالجامعة. 

تصوير: بثينة سفاريني
صورة من تجمّع مغاير العبيد (بثينة سفاريني) 

أحكمت سلطات الاحتلال سيطرتها على مسافر يطا الواقعة في نهاية سلسلة جبال الخليل الجنوبية وبداية هضبة النقب، من خلال إعلان نحو 35 ألف دونم من أراضيها منطقة إطلاق نار تشمل التجمعات (جنبا، المركز، الحلاوة، الفخيت، التبان، المجاز، اصفي الفوقا، اصفي التحتا، مغاير العبيد، الطوبا، خلة الضبع، المفقرة، الركيز، وسمري التابعة لشعب البطم) وذلك منذ عام 1980، فضلًا عن إعلان 13 ألف دونم محميات طبيعية (جزء منها ضمن منطقة إطلاق النار، حيث تتقاطع مع جنبا وسمري)، و12 ألف دونم للتجمعات الاستيطانية (هناك 4 مستوطنات معترف بها إسرائيليًا وهي "بيت يتير"، "ماعون"، "كرمئيل"، "سوسة"، عدا عن البؤر، وفقًا لرئيس مجلس قروي المسافر نضال أبو عرام.

  • سيطرة كاملة على مسافر يطا

ويوضح أبو عرام في مقابلة بحضور زملاء من مؤسسة "سانت ايف" المختصة بالاستيطان في جنوب الضفة، أن هدف أريئيل شارون -عندما كان وزيرًا للزراعة في بداية الثمانينيات- من إعلانه نحو 35 ألف دونم منطقة إطلاق نار لمنع التواصل بين القرى البدوية في شمال النقب وأهالي جنوب الضفة الغربية.

أبو عرام: المنشآت الحيوية لدولة الاحتلال موجودة في النقب، وحمايته لا تبدأ من الهضبة بل من نهاية جبال الخليل 

وسلسلة الالتماسات المقدمة من أهالي المسافر في محاكم الاحتلال بدأت منذ قيامه في بداية عام 2000 بمحاولة تهجير أهالي منطقة إطلاق النار (918) بواسطة سيارات الشحن الكبيرة، حيث تم تقديم التماس في 28 آذار/ مارس في ذات العام ضدّ الترحيل القسري. وأصدرت المحكمة حينها أمرًا احترازيًا بقبول الالتماس ومنع الترحيل، وشمل القرار جميع التجمعات في منطقة إطلاق النار، وفقًا لنضال أبو عرام.

ويكمل أنه في 2012 عندما كان ايهود باراك وزيرًا لجيش الاحتلال أصدر أمرًا بإخلاء 8 تجمعات ضمن منطقة إطلاق النار، وهي: جنبا، المركز، الحلاوة، الفخيت، التبان، اصفي الفوقا والتحتا، خلة الضبع. وحينها نشر الاحتلال خارطة أظهرت المناطق الثمانية المستهدفة مع جزء من أراضي تجمع "سمري".

ويتابع أنه على إثر ذلك تم تقديم التماس مرة أخرى للمحكمة ضد قرار الإخلاء، وتم قبول الملف الجديد وإلغاء القديم المتعلق بالعام 2000. وفي الرابع من أيار/ مايو من العام الجاري تم رفض التماس الأهالي في التجمعات الثمانية الواردة في الأعلى، موضحًا أن التجمعات التي لم يشملها القرار الصادر في 2012 وهي: الركيز، المفقرة، طوبا، مغاير العبيد، والتي تقع تحت ما تسمى منطقة إطلاق النار غير النشطة، ولكن ذلك لا يعني عن عمليات الترحيل أو إجراءات الاحتلال التي ستأتي بعد قرار الاحتلال الأخير.

  • روايات أخرى

كانت الرحلة شاقّة إلى مسافر يطا؛ زرت 6 تجمعات في منطقة إطلاق النار، جلست مع الأهالي، وكنت أميل إلى سؤالهم عن تفاصيل يومهم وحياتهم الاجتماعية.

تقول سعاد عوض (57 عامًا) من تجمع اصفي الفوقا: لا يوجد زيارات اجتماعية في مسافر يطا كما كان الوضع قبل 23 عامًا، فقد كان هناك شعور بالأمان حتى لو رجع الشخص إلى بيته في المغرب أو بعد ذلك، أما اليوم فنحن نشعر بالخوف حتى على الرجل.

ويقول أبو طايل (60 عامًا) من تجمع المجاز: ولدت هُنا وجدي وشقيقه توفيا هنا وكذلك أمي. وبسبب اعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال لا تأخذ حريتك هنا، فأنا مضطر للذهاب إلى يطا، ولم أستطع لأنني أشعر بالقلق، ولا يمكن أن يُترك البيت فارغًا سواء هنا أو في التجمعات الأخرى. ويضايقون أيضًا المواشي فهي لا تخرج من "البركسات".

وفي تجمع الطوبا، جلست مع إبراهيم علي عوض، يقول: جدي وأبي عاشا هنا، كنا نفلح أراضينا ونزرع القمح والشعير والعدس والفقوس أيضًا. وبسبب قلّة الأمطار تأثرت الزراعة، أما المواشي لم نعد نستفيد منها، العيشة مُرّة ولا يوجد مراعي للمواشي فالبلاد "قحط".

جدي وأبي عاشا هنا، كنا نفلح أراضينا ونزرع القمح والشعير والعدس والفقوس أيضًا 

وبالنسبة للوضع الصحي والتعليمي، يقول إبراهيم وأفراد من عائلته: لا يوجد مركز صحي تابع للتجمع، ونذهب إلى يطا أو إلى مدينة الخليل لتلقي العلاج، وقد لا نجرؤ على الذهاب إن لم يكن هناك مواصلات. وأغلب الناس معها سيارات مشطوبة (غير قانونية)، ولا يستطيع الشخص أن يشتري سيارة قانونية بمئة ألف، ونشتري (المشطوبة) وقد تُسرق من أمام المنزل. وبالنسبة للتعليم يضطر الطلبة في جميع المراحل أن يذهبوا إلى قرية (التواني) بمسافة 4 كليومترات صباحًا ونفسها عصرًا.

صورة من تجمع الطوبا (بثية سفاريني)
صورة من تجمع الطوبا (بثينة سفاريني) 

  • صورة من تجمع الطوبا

لا يقدِّر الغريب معنى قيمة البيت أو المنزل مثل تقدير الطفل قتيبة من تجمع خلة الضبع، فقد أخذنا أنا وزميلتي رند في جولة قصيرة بالتجمع، سألناه عن طموحه فقال إنه يريد أن يصبح طبّاخًا، وعن المنزل ومعناه يقول: إذا هدموا البيت معناه أن يهدموا قيمتي في الحياة، وأحب خلّة الضبع كثيرًا، معنى الأرض والبيت أنهما أحسن مكان بالنسبة لي وإذا انتقلت لمكان آخر أحسّ بتوتر، أمّا هنا فتجلس بارتياح. 

الطفل قتيبة من تجمّع خلة الضبع (بثينة سفاريني)
الطفل قتيبة من تجمّع خلة الضبع (بثينة سفاريني)