17-ديسمبر-2020

صورة توضيحية - gettyimages

نُشرت هذه المقالة في صحيفة هآرتس قبل أيام، وتتناول فيها إيلانا هامرمان، ما حدث جنوبي جبال الخليل حين اصطدم راع فلسطينيّ مع مستوطنين في المنطقة، ما أدّى إلى حَبس الشاب والتعتيم الإعلامي على ما حدث.

من خلال هذه الحادثة وزيارة مكان وقوعها والتحقيق بشأنها تكتب هامرمان -الناشطة في قضايا حقوق الفلسطينيين- عن عمل المنظومة القضائيّة الفاسدة في "إسرائيل".


ثلاثة يهود تجوّلوا رفقةَ كلب في المنطقة الصحراوية جنوبي جبال الخليل (في رواية أخرى يقال إنها كانت ثلاثة كلاب)، ووصلوا أسفل منزل صغير لراعٍ فلسطيني شاب كان يرعى قطيعه هناك. من سوء حظ الراعي ذُعِرَ القطيع (تزعم إحدى الروايات أن عددًا من الأغنام شعرت بالذعر إلى حدّ أنها جثت على ركبتيها لتُسقط مواليدها؛ بينما تقول رواية أخرى انعدام أساس إثباتيّ). وكان هو نفسه قد شعر بالذّعر الشّديد ورشق الكلبَ بالحجارة كي يرغمه على الهروب.

قدّم الطرّفان -المتجوّلون ووالد الراعي- شكوى اعتداء لدى الشرطة الإسرائيلية. حضر في نفس اليوم رجال الشرطة الإسرائيلية إلى منزل الراعي لاعتقاله

لم تُصب الحجارة كلبًا ولا إنسانًا (هكذا تقول إحدى الروايات؛ فيما تزعم أخرى أن حجرًا قد أصاب ساق أحد المتجوّلين). على أي حال، في ذلك اليوم، قدّم الطرّفان -المتجوّلون ووالد الراعي- شكوى اعتداء لدى الشرطة الإسرائيلية. ومرة أخرى، ومن سوء حظ الراعي مجددًا، حضر في نفس اليوم رجال الشرطة الإسرائيلية إلى منزله، لا بهدف التحقيق في شكوى والده، وإنّما لاعتقاله بصفته وشخصه. ستة عشر يومًا وليلة، سجنت فيها شرطة "غوش عتصيون" الراعي الشاب، وستة أيام وليال أخرى قضاها في سجن عوفر.

اقرأ/ي أيضًا:  إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"

يجاور هذا السجن محكمة عسكرية الأعباء فيها كثيرة وهائلة. ولعل هذا هو سبب حبس الراعي مدّة اثنين وعشرين يومًا دون محاكمة. لكن المناقشات الدقيقة والشديدة تجري الآن بالفعل في شأنه بتهمة رَشق الحجارة. وهذه ليست تهمة هينة، لأن الحجارة يمكنها أن تقتل (كما سبق وأثبت داوود ذو الشعر الأحمر -حتّى هو نفسه كان يرعى قطعانه الصغيرة في الصحراء أيضًا- الذي ضرب وقتل جالوت بالمقلاع والحجر). هكذا، وخصيصًا لهذه المخالفة، سن الكنيست الإسرائيلي قبل خمسة أعوام قانونًا أدى إلى تشديد عقوباتها: السجن لمدة تصل إلى عشرة أعوام دون إثبات قصدية إلحاق الضرر وحتّى عشرين عامًا مع إثبات القصدية.

من بروتوكولات المناقشات الطويلة التي حظيتُ بالاطلاع عليها، يمكن -وبجولاتٍ إلى الخلف والأمام- التعرف على المتجولين الثلاثة ومن أين أتوا، والاستدلال من هذا أيضًا عن سبب قدومهم. تقول إحدى الروايات -وهي رواية محامية الراعي- إنهم مستوطنون يجوبون هذه المنطقة الصحراوية لطرد سكانها الفلسطينيين. رواية أخرى تقول إنهم تجوّلوا ببراءة.

يبدو أن المُقدّمَين إيال بن نون وتسفي هيلبرون، اللذَين عُيّنا قاضيين هنا، قد قبلا بهذه الرواية: الثلاثة ليسوا حتى من سكان المنطقة، يشير المقدّم نون. من هذا، يمكن الاستنتاج بأنه لا تربطهم أي علاقة بالنزاعات الجارية بين البؤر الاستيطانية اليهودية والفلسطينيين. لقد جاء هؤلاء الثلاثة من بعيد، من "متسبيه رامون".

كانت تلك الأيام أيّام الإغلاق المحكم للموجة الثانية من جائحة كورونا، إذن، كيف ابتعد المستوطنون على هذا النحو عن منازلهم وانتهكوا الأحكام؟

كانت تلك الأيام أيّام الإغلاق المحكم للموجة الثانية من جائحة كورونا، إذن، كيف ابتعد المواطنون (المستوطنون) على هذا النحو عن منازلهم وانتهكوا الأحكام؟ تتساءل المحامية التي تمثّل الراعي. الآن يتم مناقشة قضية جائحة كورونا من كافّة جوانبها. إلى أن يبرّئهم المقدم هيلبرون من هذه المخالفة: يتضح أنهم انتقلوا في مكان سكناهم إلى المزرعة "المجاورة لمكان الحادث، وبالتالي، فإنّهم لم ينتهكوا قوانين الإغلاق، كما يبدو الأمر في ظاهره".

اقرأ/ي أيضًا: تحقيق إسرائيلي يكشف تفاصيل مرعبة إبان النكبة

ماذا تكون تلك المزرعة؟ وهذا أيضًا أمرٌ يتوضح من المناقشات: هي مزرعة يسسخار مان. ويتّضح أيضًا أن ضابط الارتباط والتنسيق في الإدارة المدنية قد حدّد "أن المساحة التي وقع فيها الحادث تابعة ليسسخار ويمكنه المكوث فيها ورعي الأغنام". من هذا، استنتجتُ أمرًا مؤكّدًا: إذا سمح له بالرعي والمكوث هناك، فمن المؤكّد أن يُسمح أيضًا للأشخاص الذين يعيشون ويعملون معه بالتجول هناك.

من البروتوكولات، يمكن أيضًا فحص رواية الراعي: كان يرعى قطيعه قريبًا من منزله، اقترب منه المتجولون وكلبَهم، فشعر بأنّه مهدد ورشق الحجارة على الكلب كي يحمي نفسه وقطيعه. جزمت المحامية بتسمية هذا الفعل "دفاع عن النفس".

اجتهدتُ في البحث ووجدت تعديلاً لقانون العقوبات، وافق عليه الكنيست عام 2008 وأطلق عليه "قانون درومي" (على اسم شاي درومي الذي أطلق النار على أربعة أفراد من البدو اقتحموا مزرعته وقتل أحدهم).

"لا يتحمّل أي فرد المسؤولية الجنائية عن فعل كان مطلوبًا تنفيذه على الفور لصدّ كلّ من يقتحم منزلًا أو مصلحة تجارية أو مزرعة مسيجة

"لا يتحمّل أي فرد المسؤولية الجنائية عن فعل كان مطلوبًا تنفيذه على الفور لصدّ كلّ من يقتحم منزلًا أو مصلحة تجارية أو مزرعة مسيجة، سواءً كان تابعًا له أو لغيره. مكان للرعي يُعتبر أيضًا مزرعة."

اقرأ/ي أيضًا: كتاب إسرائيلي يوثق النهب اليهودي لأملاك العرب إبان النكبة

في حالة الراعي والمتجوّلين، حكم المدعي العسكري بوجود "رواية مقابل رواية". واحدة تحسم بأن اليهود تجوّلوا في أرضهم ببراءة وهاجمهم الراعي، والأخرى تحسم أنهم دخلوا أرضه لتهديده وترهيبه فدافع عن نفسه برشق الحجارة.

هدفي في هذا المقال هو تحديد ما هما الروايتان الحقيقيتان، الكبيرتان، التي يفصح عنهما هذا النقاش القضائيّ، كغيره من مئات المناقشات الأخرى التي تدور في النظام القضائي الإسرائيلي والعسكري والمدنيّ على حد سواء. سأبدأ بالقول إنّني أنجذب إلى هذه المنطقة وغالبًا ما أسافر إليها بنفسي، بصفتي امرأة يهودية إسرائيلية منخرطة في النشاط السياسيّ وكإنسانة تعشق المناظر الطبيعية الصحراوية، على حد سواء. هكذا انتقلت مؤخرًا إلى المكانين اللذين تورط فيهما الأشخاص في الحادث: من ناحية بلدة الراعي وأسرته، ومن ناحية أخرى مزرعة مان، وهي بؤرة استيطانية أقيمت بالقرب من مستعمرات "كرمل" و"ماعون" ومزرعة "ماعون".

في بلدة الراعي، التقيت به وبعائلته ورأيت المكان الذي أتى فيه المتجولون رفقة كلبهم: تمامًا عند سفح مكان سكناهم - مقصورة صغيرة ومعسكر كبير وقماش القنّب على دعامات متينة، سقيفة للأغنام. رأيت أيضًا صورًا لدرّاجات رباعيّة وكلاب غريبة تأتي إليهم يوميًا. من هناك كان بإمكاني رؤية مزرعة مان، القصيّة: جبل البلدة الفلسطينية الصغيرة من جهة وجبل المزرعة -التي لا تزال صغيرة أيضًا– من جهة. وبينهما تلال ووديان.

 من هناك تمكنت من مشاهدة بلدة الراعي والتجمعات الفلسطينية الأخرى المنتشرة على مساحات شاسعة تكفي لرعي قطعان كثيرة، لليهود والعرب

في مزرعة مان، التقيت بيسسخار مان وعماله ورأيت بعض ورش العمل المرتجلة وحظيرة جميلة وكبيرة ومقصورة قبيحة المنظر صغيرة لسكن بشريّ. من هناك تمكنت من مشاهدة بلدة الراعي والتجمعات الفلسطينية الأخرى المنتشرة على مساحات شاسعة تكفي لرعي قطعان كثيرة، لليهود والعرب. ورأيت شيئًا آخر: أحد العمال، نجل يسسخار مان، ارتدى قميصًا أخضر كُتبت عليه عبارة "هشومير يوش". وقد سبق ورأيت القميص مع هذه الكتابة عدة مرات بين الخيام والأكواخ في تلك المجتمعات، الأمر الذي قادني بسهولة إلى الرواية الصحيحة لحكاية الراعي والمتجولين.

اقرأ/ي أيضًا: "إسرائيل" تحمي جنودها القتلة.. تفاصيل جديدة

ضعوني أمامَ مطبّ واسألوني: ما الحكمة في الأمر؟ لقد وجدتِ ما جئتِ تبحثين عنه! صحيح، فأنا لا أصطنع السذاجة. ومع ذلك، فأنا أجزم بأنّ لا شيء يضاهي أن ترى بأمّ عينيك، وبالتالي لن أتوقف عن توثيق ما تراه عيناي - الروايات الحقيقية التي لا يراها معظم أبناء بلادي من اليهود ولا يريدون رؤيتها.

حسنًا، تُعرّف "هشومير يوش" نفسها على النحو التالي: "منظمة الحراسة في يهودا والسامرة .... حرّاس حدودنا يواجهون يوميًا حوادث إرهابية مثل السرقات والحرائق واجتياح أراضي الدولة. تأسست منظمة هشومير يوش قبل حوالي عشرة أعوام، من منطلق الإدراك بأنّ مهمة الحفاظ على أراضي الدولة هي مهمة وطنية وهي مهمتنا جميعا".

إذا كان الأمر كذلك، فإنهم لم يكونوا متجوّلين، وإنّما مليشيات. لكن تلك الميليشيات تحمي بالفعل "أراضي الدولة". هذا هو تعريف تلك الأراضي في قانون إسرائيل وينطبق الأمر ميدانيًا وفي محاكمها. لكن هنا تكمنُ المعضلة، أنها تتمدد على مساحات شاسعة يسكنها فلسطينيون عرب، وليس اليهود. لذلك، تم سن قانون آخر مؤخرًا، وهو قانون أساس، ينص على أن "دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، التي ينفّذ فيها حقه الطبيعي، الثقافي والديني والتاريخي، في تقرير المصير. إن إنفاذ حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل مقصور على الشعب اليهودي".

حدود دولة إسرائيل لم تحدد قط في القانون الإسرائيلي

هذا القانون لا حدود له: حدود دولة إسرائيل لم تحدد قط في القانون الإسرائيلي، وبالتالي فإنّ الراعي الفلسطيني في منطقة جنوبي جبال الخليل قد اقتحم فعلاً أراضي الدولة اليهودية، ومنظمة هاشومير يوش التي تسعى إلى صَرفِه تنفذ سياستها، سياسة حكوماتها وجيشها وقضائها. ليس لدى الراعي الفلسطيني أي فرصة قانونية في هذه الحالة. حُكم الأرض التي تتواجد قريته عليها مثل  حكم الأراضي التي صودرت وقت تأسيس كرميئيل، ومثل حكم أراضي العراقيب وأم الحيران في ذلك الوقت، وحُكم سكان بؤرة يسسخار مان كحُكم اليهود الذين استقروا في قرية حيران.

اقرأ/ي أيضًا: قضاة إسرائيليون: "الشاباك" يجبر أبرياء على الاعتراف

إن عملية التطهير العرقي (هذا هو المصطلح الصحيح الذي لا ينضب) التي حدثت وما زالت تحدث في النقب، كحال العديد من الأماكن الأخرى داخل "الخط الأخضر"،  تأتي الآن لتتمم، في كافة أرجاء الضفة الغربية، ما يُسَمّى "تجديد تدبير الأراضي في يهودا والسامرة - اعتماد وتنفيذ توصية الإدارة المدنية". هذا التدبير سيؤهل المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي سيتم تعريف الأراضي المقامة عليها في النهاية على أنها "أراضي دولة"، دولة إسرائيل، على حساب مئات الآلاف من الفلسطينيين في الأراضي التي احتُلّت عام 1967.

كتب مايكل سفاراد مؤخرًا (هآرتس، 4.12) ما يلي: "أولئك الذين يريدون منع تعميق الفصل العنصري الإسرائيلي والحفاظ على إمكانية التوصل إلى حل متفق عليه للصراع، أولئك الذين يقدرون حقوق الإنسان والذين يعارضون الضم، لزامٌ عليهم أن يخوضوا نضالًا لا هوادة فيه في الأسابيع والأشهر المقبلة لإحباط نوايا اسرائيل بإنشاء تدبير للأراضي في الضفة الغربية ".

ولم يفسر سفاراد كيف وأين سيدار هذا النضال الذي لا هوادة فيه ومن سيقوده. المحامون في المحاكم الخاضعين لقوانين الدولة اليهودية؟ ثلةٌ من الإسرائيليين ينزلون الميدان للدفاع عن القرى والتجمعات ويدهم أقصر من أن تصل إلى الخلاص أمام الجيش والميليشيات اليهودية التي تواجههم؟ ولعلّهم يحشدون فجأة جرأة الآلاف القليلة في المجتمع الإسرائيلي الذين يقدّرون حقوق الإنسان فينضمون إليهم، وحتى أنهم قد "يرقدون تحت الجرافات"، كمثال قدمته مؤخرًا زهافا غل أون، ولسبب ما طبقته فقط على إخلاء الخان الأحمر (هآرتس ، 25.6)؟

الفلسطينيون لن يذهبوا إلى أي مكان، وصمودهم العفوي يؤسس هو أيضًا حقائق على أرض الواقع

لأنّ كل هذا على الأرجح لن يحدث، يجب على كل هؤلاء الأفراد الطّيبين أن يعلموا أنه تم بالفعل إنشاء كيان فلسطيني يهودي واحد بين البحر والأردن. لأن الفلسطينيين لن يذهبوا إلى أي مكان، وصمودهم العفوي يؤسس هو أيضًا حقائق على أرض الواقع. يكفي السفر من القدس إلى جنوب جبال الخليل لإدراك أن قراهم منتشرة فوق التلال وأن بيوتًا تُشيّد هناك لتوفير المأوى للعائلات المتوسعة -وبعضها بيوت فاخرة- وبينها ثمّة أراضٍ مزروعة على المدرجات القديمة، وكلّ الحواجز والجدران واقتحامات المنازل وقتل المتظاهرين لم ولن تردع من ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه، لا داخل الخط الأخضر الذي مُحيَ منذ زمن ولا خارجه. وهم بالملايين: ملايين الأشخاص الذين يتشبثون بالحياة وبالتالي يدركون أيضًا حقهم الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي في تقرير المصير.

حياة هؤلاء ليست سهلة، وهذا أقلّ ما يُقال. سوف يُحكم على الراعي الفلسطيني الشاب بالسجن، لكن أسرته لن تغادر المكان. لا هي ولا مئات الأسر الأخرى في المنطقة ممّن تُهدم خيامهم ومنازلهم وقطعانهم، فهيَ تعيد بناءها من جديد، وتلد صبيةً وبنات وتربيهم وترسلهم إلى المدارس والجامعات، وتتمسك بأرضها وثقافتها الحياتية القديمة. هذه هي رواية هؤلاء البشر.

وكما هو مذكور في سفر الخروج: "ولكن بِحَسبِما أذلّوهم هكذا نمَوا وامتدّوا".


اقرأ/ي أيضًا: 

 سفاح كفر قاسم يكشف أخطر أسباب المجزرة

بؤرة استيطانية للمراهقات فقط: "نُحارب لأجل أرض إسرائيل"