تصادر سلطات الاحتلال اليوم الأرض الفلسطينية دون رقيب أو حسيب، الكثير من المسميّات التي جيّرتها دولة الاحتلال من قوانين كانت سارية في فلسطين قبل الاحتلال نفسه، لخدمة مشروعها الاستيطاني ولصالح مشروعها التوسعي. أوامر الاستملاك واحدة من هذه المسميّات، إلى جانب إجراءات أخرى مثل إعلانات أراضي الدولة، وأوامر وضع اليد والإغلاق، بحجة التدريبات العسكرية، وإعلانات أخرى.
أوامر الاستملاك واحدة من المسميّات التي جيّرتها دولة الاحتلال من قوانين كانت سارية في فلسطين قبل الاحتلال نفسه، لخدمة مشروعها الاستيطاني ولصالح مشروعها التوسعي
أوامر الاستملاك في الوضع الطبيعي، تمنح الدولة، أيّا كانت، الحقّ باستملاك أية قطعة أرض إذا كانت مصلحة الجمهور تقتضي ذلك، على أن يتم تقديم تعويضات لائقة لأصحاب الأراضي، لكن في حالة القوة القائمة بالاحتلال في الأرض الفلسطينية، فإن أوامر الاستملاك بحجة "مصلحة الجمهور" أو "العامة" تذهب في تجاه آخر، وهي اتجاهات في جوهرها استيطاني يخدم المستوطنين والمشروع الاستيطاني في شكله الأعم، المواطن الفلسطيني بدوره يرفض التعويض، لأن أي تعويض يتم قبوله من القوة القائمة بالاحتلال هو تسليم بأداتها، وتسليم بأهدافها.
وإذا كانت أوامر الاستملاك التي أصدرتها دولة الاحتلال ومنذ إحكام سيطرتها على الضفة الغربية بما فيها القدس واحدة من شواهد تجيير القوانين القائمة قبل الاحتلال لصالح التوسعة الاستيطانية، بالرغم من النص الواضح في "قانون لاهاي" رقم 43 الذي ينظّم إدارة أحوال الأشخاص الواقعين تحت الاحتلال بما فيها تطوير بنيتهم التحتية وأحوالهم الحياتية، إلا أنه وبالرغم من كل ذلك فإن هذه الأوامر التي تصدرها الجهات التابعة لـ "الإدارة المدنية" واحدة من وسائل كثيرة للسيطرة على الأرض الفلسطينية.
ومن الناحية التاريخية فقد استندت حكومة الاحتلال في موضوع الاستملاك للمصلحة العامة أو الجمهور إلى قانون الأراضي الأردني للعام 1953 والذي ينظّم وضع الأراضي التي تريد الدولة أن تستولي عليها بحجة أنها تخدم مصلحة السكان المحليين، مثل شقِّ الطرق وإدارة البنية التحية وتطويرها والإضافة عليها، إلا أنّ دولة الاحتلال، لوَت عنق القانون لفرض المزيد من إجراءات السيطرة على أراضي الفلسطينيين، وتحويلها لصالح المستوطنين حصرًا، ولصالح المشروع الاستيطاني.
نحو 75 ألف دونم صادرتها سلطات الاحتلال منذ سنواتها الأولى في فلسطين من خلال 315 أمر استملاك
وعلى مدار سنوات الاحتلال الطويلة، فقد أصدرت سلطات الاحتلال ومنذ سنواتها الأولى وحتى كتابة هذا المقال ما مجموعه 315 أمرًا لاستملاك أراضي الفلسطينيين بحجة المصلحة العامة أو مصلحة الجمهور، ألغت منها 11 أمرًا، وأبقت على 304 أوامر نفذت معظمها على الأرض، في حين بقي مجموعة منها تنفذ لاحقًا وفقاً لرغبات المتحكمين في "الإدارة المدنية" التابعة للاحتلال. وقد صادرت هذه الأوامر ما مجموعه 75 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين، ولعل الفترة الممتدة بين 1968 و1975 كانت الأكثر أثرًا من حيث عدد الدونمات المصادرة، نظرًا لأنها صادرت نصف عدد الدونمات الإجمالي من مجمل أوامر الاستملاك المدوّنة. في حين كانت الفترة الممتدة بين 1977 و1984 وهي فترة حكم حزب "الليكود" الأولى، الفترة الأعظم من حيث عدد أوامر الاستملاك التي تم إصدارها وبلغت في هذه الفترة 179 أمرًا،[1]في حين صدر في الفترة الممتدة بين 2014 ومنتصف 2023 ما مجموعه 30 أمرًا تم على إثرها مصادرة أكثر من 2000 دونم[2].
سلوك دولة الاحتلال في العقود الخمسة الماضية منح الكثير من الشواهد على تجييرها لقانون الاستملاك لصالح دولة المستوطنين
ولعل سلوك دولة الاحتلال في العقود الخمسة الماضية من الاحتلال منح الكثير من الشواهد على تجييرها لقانون الاستملاك لصالح دولة المستوطنين، حيث كان نموذج مستوطنة "معاليه أدوميم"، أكثر النماذج الفاقعة في نقض نظرية مصلحة الجمهور على هذا الصعيد، إذ أن المستوطنة التي تعتبر من كبريات مستوطنات الضفة الغربية، أقيمت في عام 1975 وفق أمر يقضي بمصادرة ما مجموعه 50 ألف دونم بداعي الاستملاك للمصلحة العامة، من أجل بناء المستوطنة، وتشير الخرائط والمخططات الهيكلية إلى أن مساحة بناء المستوطنة تبلغ 7200 دونم (بما فيها مستوطنات ميشور أدوميم ومتسبيه يريحو التابعة لها)، في حين جرى تخصيص حوالي 43 ألف دونم كمناطق نفوذ تابعة لهذه المستوطنة، بمعنى أن الفلسطيني يُحرم من المساحات المتبقية والتي تخصص في المستقبل من أجل كل عمليات التوسعة اللاحقة للمستوطنة والتي ستجري في هذه المساحات (انظر الخارطة)[3].
لم تتوقف حدود الاستغلال الفجّ للقانون الذي جاء في جوهره من أجل تطوير حياة السكان وبناهم التحتية عند هذه الحدود، بل أمعنت دولة الاحتلال في استغلال ما تم إعلانه إبان الحكم الأردني للبلاد، أي قبيل العام 1967، وتحديدًا في أوامر الاستملاك لصالحها ولصالح مشروعها الاستيطاني، وهنا يكمن الحديث عن مستوطنة "عوفرا" المقامة على أراضي المواطنين في محافظة رام الله، لكن قبل إقامة المستوطنة في العام 1975، كانت الأرض عبارة عن موقع عسكري يملكه الجيش الأردني بأمر استملاك على مساحة تقدر بـ208 دونمات، وتم إخلاؤه قبيل الاحتلال، وبقي لوقت طويل كمكان مهجور، إلا أن دولة الاحتلال أعادت استملاكه ونزعت ملكيّته من أصحابه الذين لم يعترضوا على استملاك الجيش الأردني للموقع، لكنهم تابعوا القضية أمام محكمة الاحتلال التي قضت بتثبيت تملكه لصالح جيش الاحتلال بمساحة تقدر بـ265 دونمًا، أي أن دولة الاحتلالة سلبت فوق أمر الاستملاك الأردني ما مساحته 57 دونمًا [4].
وإذ يتضارب هذا النوع من القوانين بشكل فجّ مع القانون الدولي الذي يمنع بل ويجرم، وفق مقتضيات اتفاقيات جنيف، من نقل السكان، سكان الدولة القائمة بالاحتلال، إلى الأرض الواقعة تحته، نظرًا لما يمكن أن يحدث من تضارب مصالح بين واجبها في رعاية مصلحة السكان المحليين الخاضعين لنظامها العسكري، وبين طموحها في حماية ورعاية مصالح سكانها أي المستوطنين، فإن دولة الاحتلال وبالرغم من ذلك نقلت وأعادت موضعة سكانها داخل الأراضي المحتلة، ولم تكتف بذلك بل جيّرت وصاغت القوانين في خدمة ذلك كله، وفي حالات أخرى خلطت بشكل قصدي بين الإعلانات من أجل التحايل على قدرة المواطنين في الاعتراض أمام محاكمها.
في بعض الأحيان يصدر جيش الاحتلال أوامر مصادرة بحجة شق طرق لأغراض عسكرية، لكن يتبيّن لاحقًا أنها لخدمة المستوطنين، وقد جاء إعلان المصادرة بهذا الشكل للتحايل على الفلسطينيين الذي سيعترضون ضدّ القرار
ومن المعروف أن محاكم الاحتلال لا تنظر في القضايا ذات الصبغة الأمنية أو العسكرية مثل إعلانات وضع اليد لأغراض عسكرية، لكنها تنظر مثلًا في اعتراضات المواطنين على أوامر الاستملاك نظرًا للطابع المدني الذي يحيطها، وهو ما حدث مطلع العام 2023 حين تحايلت سلطات الاحتلال على المواطنين بعد إعلان السيطرة على أراض فلسطينية بحجة أنها سيطرة لأغراض عسكرية، حيث استهدف أمر وضع اليد رقم (ت/10/23) ما مجموعه 218 دونمًا من أراضي قرى جينصافوط والفندق وحجة من محافظة قلقيلية بحجة شق طريق لأغراض عسكرية، لكن، وعند العودة إلى القرار العسكري الذي جاء تحت مسمى أمر وضع يد على أراضي جينصافوت والفندق وحجة في محافظة قلقيلية لأغراض شق طريق، وبعد مراجعة مجموعة من المراجع والخرائط الخاصة بالأمر العسكري تبيّن أن جيش الاحتلال يتحايل على المواطنين الذي سيعترضون في المحكمة ضدّ القرار بالادّعاء أن المصادرة جاءت لاعتبارات أمنية، ولكن في حقيقة الأمر أن الشارع المنوي شقّه يخدم المستوطنين وتحديدًا مستوطنات "شافي شمرون"، "كدوميم"، "يتسهار"، "براخا"، "ايتمار"، "ألون موريه" وهي تحتوي على مستوطنين متطرفين، وحقيقة وجود وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموترتيتش كساكن في مستوطنة "كدوميم" هو ما عجّل في أمر هذا الشارع تحديدًا.