"يافا زهرة فلسطين ولا يوجد ميناء أو بحر مثل بحر يافا، لا أحد يستطيع أن ينكر بأنها زهرة الوطن والشرق الأوسط كله". يقول الصياد إسماعيل الفصيح (76 عامًا) الذي لا تزال يافا وتحديدًا بلدتها القديمة تسكن قلبه، وهو يُمسك شباك الصيد استعدادًا لولوج بحر غزة بحثًا عن رزقه.
غادر الفصيح يافا عام 1948 عبر البحر، في رحلة شقاء لم يغادر فيها الفصيح البحر منذ ذلك الحين؛ حتى بعد أن بلغ من الكبر عتيّا، لكن روحه لا زالت تشتاق لإنهاء هذا "الضياع الأبدي" كما يصفه بالعودة إلى مسقط رأسه.
إسماعيل الفصيح تعلّم الصيد في يافا قبل النكبة، ولا يزال يمارسه في بحر غزة بعد أن بلغ 76 عامًا
بدأت رحلة لجواء إسماعيل عند الساعة الثانية ظهرًا، برفقة أمه وشقيقتيه وأخواله، وانتهت في منطقة "النترا" بمدينة بور سعيد المصرية. يستذكر الفصيح كيف قضى سنة ونصف في بور سعيد دون أبيه الذي توجه إلى غزة مباشرة، يقول: "عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين قضوا سنوات في خيام أقامها الجيش المصري هناك في منطقة بور سعيد والسويس والإسماعيلية، يتلقون المعونات والطعام وهم على أمل الرجوع عاجلاً إلى بيوتهم وأعمالهم".
اقرأ/ي أيضًا: الصيادون في غزة.. عُزلة وحرب في الظلمات
ولا يخوض الرجل السبعيني في تفاصيل اللجوء بقدر خوضه في أيام يافا وبحرها، وهو الذي ولد في منزل في قلب ميناء يافا، يقول إنه لا يزال موجودًا وعليه "فنار" في زقاق الباطنية. يضيف، "عشت حياتي في كنف أبي وجدي اللذين كانا يعملان في البحر ويشرفان على مراكب كبرى هناك. كان لجدي اسم لامع في الميناء، إضافة إلى أنه كان أحد أعيان يافا في ذلك الوقت، ومراكبه معروفة للجميع في الميناء".
يشير إلى أن الاحتلال الإنجليزي كان يحاول الاستيلاء على مراكب الصيادين الفلسطينيين قبل النكبة، في سبيل التضييق عليهم، فعمدوا إلى استعارة مراكب بعضهم البعض، لكن جده الشيخ خليل الفصيح، أعطب مركبه كي لا يأخذه الإنجليز منه، وقد كانت تلك الحادثة حديث يافا. هذا التضييق يعيشه الفصيح اليوم بعد ستة عقود، إذ تُلاحق قوات بحرية الاحتلال الإسرائيلي صيادي غزة وتصادر مراكبهم وتعتقلهم وتطلق الرصاص عليهم، ما أدى لاستشهاد العديد منهم، إضافة لتقييد مساحة الصيد.
ويبين الفصيح أن ميناء يافا كان نشطًا على الدوام، عامرًا بالسفن، والتجارة، والصيد الوفير، مضيفًا أنه بدأ يتعلم فنون الصيد والإبحار من أبيه وجده في ميناء يافا منذ نعومة أظفاره.
وبالعودة إلى رحلة اللجوء، فإن الفصيح وبقية عائلته التحقوا بأبيه في قطاع غزة عام 1951، بعد ثلاث سنوات في بور سعيد، وقد سكنوا في مخيم المغازي وسط القطاع، ثم انتقلوا إلى خيام في محافظة غزة؛ ثم ما لبث أن عاد إلى البحر، بعد أن بلغ 15 عامًا.
إسماعيل الفصيح: حتى البحر في يافا كان مختلفًا، حتى عملنا في بحر غزة الذي هو امتداد لبحر يافا مازال يشعرنا باللجوء والاشتياق لها
يقول: "حتى البحر في يافا كان مختلفًا، كنت آمنا في بيتي، أما هنا في غزة، حتى عملنا في البحر الذي هو نفس البحر وامتداد له، مازال يشعرنا باللجوء والاشتياق ليافا".
اقرأ/ي أيضًا: صيد السمك بالصنارة في غزة.. هل معك تصريح؟
عاد الفصيح مع والدته إلى يافا مرة واحدة بعد النكبة، وتوجها إلى منزل العائلة ليجداه مسكونًا بمستوطنين، وقع جدال بين الطرفين انتهى بنجاح الفصيح وأمه في دخول المنزل، رغم إنكار المستوطنين صلتها بالمنزل. قالت لهم أم إسماعيل: "هذا منزلي، وهناك في زاوية البيت يوجد بئر، إضافة لغرفتين". وقف المستوطنون يستمعون لها وهي تصف منزلها بدقة، وتروي تفاصيل من حياتها فيه، قبل أن تعود إلى غزة بقلب يحترق.
ورغم الحنين الشديد إلى يافا وبحرها، والمخاطر الجسيمة التي يتكبدها صيادو غزة خلال عملهم، إلا أن الفصيح لا يزال يجد في الصيد متعة تدفعه إلى البحر حتى بعد أن اشتعل رأسه شيبًا. يوضح أنه يخرج فجرًا مع أبنائه الخمسة لرمي الشباك في البحر بعد إصلاحها وتجهيزها للصيد، لكنه يؤكد أن الصيد لم يعد مثمرًا الآن نتيجة تقليص مساحة الصيد، وملاحقة الاحتلال للصيادين.
ويبيّن أنه علّم أبناءه مهنة الصيد، وأطلعهم على أسرارها، وشرح لهم كيف يتعاملون مع مفاجآت البحر ومخاطره، مؤكدًا أن غزل شباك الصيد أنواع، وغزلها فن، وأن هناك طريقة لحساب الأميال البحرية. ويشير إلى أنه زار عددًا من الدول العربية وغير العربية، وتعرّف على بحارها، حتى أصبح "موسوعة بحرية" في نظر رفاقه الصيادين الذين لا يجدون منه إلا كرمًا في تعريفهم بكنوز مهنة الصيد.
لكن الفصيح لا ينسى قصف الاحتلال غرفته في ميناء غزة البحري، خلال حرب 2014، ما أدى لاحتراق معداته وتلف شباكه. يقول إن هذه الضربة أصابته بمرض السكري والضغط، وهشاشة في العظام، حزنًا على خسائره الجسيمة.
قصف الاحتلال غرفة إسماعيل الفصيح في ميناء غزة، فأحرق مراكبه وأتلف شباكه، وتسبب له بأمراض مزمنة، لكنه عاد للبحر مجددًا
ورغم ذلك، فإن الفصيح عاد إلى البحر صيادًا، يقول: "البحر في دمي لا يستطيع أحد أن يمنعني عنه، وسأستمر بمزاولة مهنة الصيد رغم كل الظروف القاهرة، فالصيد مهنة أجدادي وأبي، وهي إرث عائلي لا أستطيع أن أتخلى عنه لأي سبب كان".
ويشهد قطاع غزة إقبالاً واسعًا على المشاركة في "مسيرات العودة الكبرى" باتجاه السياج الفاصل بين القطاع المحاصر، والأراضي المحتلة عام 48، ما أنعش آمال المحاصرين في غزة بأن "العودة مسألة وقت" كما يقولون.
هذا التفاؤل لا يزال الفصيح يعيش حياته متمسكًا به، مؤكدًا أنه لا يفقد الأمل بعودة يافا وكافة المدن المحتلة، وبأن يتنفس رائحة بحر يافا من جديد، وهي التي لا تفارق روحه ولا يتوقف عن الحديث عنها دومًا بشوق وحنين.
اقرأ/ي أيضًا:
هجّرتهن النكبة والتقين بعد 70 سنة