27-ديسمبر-2017

المُسنّتان حليمة وعبيلة في أوّل لقاء بعد النكبة

لم تستطع التسعينية "أم فيصل" أن تخفي حنينها الجارف لطفلتها "عبيلة"، التي لطالما اعتبرتها كذلك مذ ولادتها، إلى أن باعدت بينهما الحرب، فلم تستطيعا الوصول إلى بعضهما، إلّا قبل عدة أيام، حيث التقيتا في غزة، بعد 70 سنة فراق.

سبعون سنة لم تكن كافيةً لنسيان أي تفاصيلٍ صغيرة، ينبشن الماضي ويتسامرن في فصوله وكأنما حدث بالأمس القريب.

تعرفت المسنّة حليمة محمود حرب "أم فيصل" من خانيونس، على اسم طفلة كانت ترعاها أثناء غياب أمها بعض الأحيان في بلدة حمامة قبل النكبة عام 1948، وهي الحاجة الثمانينية عُبيلة عوض "أم عادل" والتي تقطن حيّ الشيخ رضوان بمدينة غزة.

 "قديش ضايل يا بنتي.. مطولين كثير؟"، كان الشوق جليًا في كل سؤالٍ تحتاج فيه إلى جوابٍ واحد؛ أنّ الطريق للقاء الأحبة بات أقصر 

علمتْ ذلك خلال زيارة إحدى حفيدات الحاجة "عوض" إلى منزل عائلة "حرب"، وخلال تسامرها مع الحفيدة سألتها عن عائلة أمها، وتبادر في طرف الحديث اسم جدّتها لأمها، حينها لم تسع السعادة الحاجة "حرب" من شدة الفرحة، وأقسمت عليها أن تأخذها إليها قبل أن ترتحل من هذه الحياة، فلطالما سألت عن أخبارها التي انقطعت منذ هجرتهما القسرية.

ترددت الحفيدة في تلبية طلبها، نظرًا لصحتها وسنّها الكبير وعدم قدرتها على تحمّل الطريق، إلا أنّ إصرارها الدائم، دفعها قبل عدة أيام إلى إحضارها لرؤية جدتها عبيلة عوض.

تجهزت عوض منذ ساعات الصباح للقاء الرفيقة المرتقب، فهيّأت منزلها وارتدت أجمل ملابسها، لأنها ستتلاقى مع أغلى الحبايب كما تقول، وأخبرت الجميع بالحضور لتُعرّفهم على حبيبتها التي تنتظرها على أحرّ من الجمر.

علت الزغاريد والأغاني الفلسطينية التي تحمل في طياتها الشوق ولقيا الحبيب حينما وصلت الحاجة أم فيصل منزل صديقتها، أحضانٌ طويلة لم تشبعهما من رائحة الماضي.

ترى حرب أن أثمن ما يمكن أن يقدّمه شخص لآخر كهدية، هو الثوب الفلاحي المُطرّز يدويًا، فأحضرته معها، إلى جانب بعض ربطات الرأس المحتفظة بهن، مبينةً أنها أجمل من كل ما يُصنع اليوم.

الأمثال الشعبية والوصايا الجميلة لم تغب عن حديثهما، وأغدقت الحاجتان على الحضور بتجارب الزمن الجميل، لتمازح الحاجة التسعينية إحدى الفتيات ألا تتزوج إلّا من الرجل الوسيم قائلة: "الحلو حلو لو قعد من النوم، والتالف تالف لو غسّل وجهه كل يوم"، ليضج المكان بالضحك والأسئلة الطريفة.

حرب تبيّن أنّها الأجمل من بين فتيات الحيّ، عدا عن أنها "أصيلة" لا تعرف "الميوعة والغنج" على حدّ قولها، وهذا الذي جعلها تتزوج قبل الجميع، ومن شدة غيرة صديقاتها منها لم يحضرن حفل زفافها.

أم فيصل الوحيدة لأهلها، تزوجت في عمر 15 عامًا، وحينما هُجّرت من بلدتها كان لها من الأبناء، فيصل وتركية، ذهب فيصل للقتال مع الفدائيين الفلسطينيين، واستشهد في عملية فدائية بعد تنفيذه عملية أوقعت إسرائيليين قتلى.

لم يخلُ اللقاء من الحديث عن تفاصيل الحياة في الماضي، وعن جمال العلاقات وصدق المشاعر، تمتزج الدموع بالابتسامة، والأمل بالعودة القريبة يظل حاضرًا، فلا شيء يمكن أن يعوّض لحظة عاشها الفلسطينيون في بلادهم، يتنعمون بخيرها وأمنها، وأنّ البعد مهما طال لا بُد أن ينتهي.


اقرأ/ي أيضًا:

فلسطينيون يعودون لـ"البلاد".. "هون دارنا"!

شاهد القبر الفلسطيني الذي تجاوز ثلاثة حدود!

رجب غانم.. 69 عاما في رحلة البحث عن رائحة اللد