"شجرة واقفة مكانها والناس تأتي وترحل عنها، الأسرى يُعتقلون ويخرجون وهو مكانه في السجن" هكذا يصف أحمد، شقيقه عميد أسرى رام الله والبيرة الأسير محمد فوزي فلنة (55 عامًا) من بلدة صفّا غرب رام الله، المعتقل منذ 26 سنة.
اعتُقل فلنة في المرة الأولى عام 1986 وكان عريسًا جديدًا تزوج قبل شهرين ونصف من اعتقاله، وظل في سجون الاحتلال لمدة 14 شهرًا بتهمة إلقاء قنبلة "مولوتوف" على دورية لجيش الاحتلال.
الأسير محمد فلنة من صفَّا اعتقل عام 1992 بتهمة تفجير حافلة مستوطنين ما أدى لمقتل مستوطنة وجرح آخرين
أما الاعتقال الحالي فبدأ بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1992، وكان عمره حينها (29 عامًا)، وقد اعتُقل على خلفية مشاركته في تنفيذ عملية تفجير حافلة مستوطنين على الطريق المؤدية إلى مستوطنة "متتياهو" بين قريتي خربتا وصفا برام الله، برفقة الشهيد عصام براهمة والأسير المبعد إلى غزة عطا فلنة، وقد أدى التفجير لمقتل مديرة مجلس المستوطنة، والتي كانت مسؤولة عن توطين المستوطنين الجدد، وجرح 9 آخرين.
اقرأ/ي أيضًا: ناصر أبو سرور.. ظريف الطول الذي انتظرته مزيونة 26 سنة
محمد ترك المدرسة من الصف الخامس الابتدائي لمساعدة عائلته في مصاريف الحياة، وعمِل في مجال البناء بالداخل المحتل. يقول شقيقه، إنه لم يكن يظهر عليه أي نشاط سياسي، و"لم يكن من المقاومين والمطاردين الذين يحملون السلاح ويتنقلون من مكان لآخر، ولكنه كان كأي فلسطيني يحب البلاد ويكره الاحتلال".
قبل العملية بفترةٍ تعرّف محمد على الشهيد عصام براهمة من قرية عنزة قضاء جنين، وكان حينها مطاردًا ومتخفيًا بالعمل في البناء ببلدة صفّا حتى لا يتمكن الاحتلال من اعتقاله أو تصفيته، وكان هو العقل المدبر لهذه العملية ومن صنع المتفجرات ووضعها أمام الحافلة بمساعدة محمد وعطا.
ظل الاحتلال 40 يومًا دون أن يعرف من نفذ العملية، وظل محمد طوال هذه الفترة يمارس حياته الطبيعية، يذهب إلى العمل في الداخل المحتل، ويجلس مع عائلته وأصحابه. "كان قد اشترى جهاز فيديو جديد وأول شيء عمله به، أنه سجل نشرة الأخبار التي بثتها القناة الإسرائيلية عندما زار باراك موقع العملية حيث قال إنها عملية فريدة من نوعها، وأن وضع سلك في جهة وقنبلة في جهة أخرى لتحترق الحافلة عند حدوث تماس، عملية لا ينفذها إلا حزب الله" كما ينقل شقيقه.
قبل اعتقال محمد بأيام انتشرت أخبارٌ في صفَّا أن الاحتلال عرف منفذ العملية وأنه من البلدة، بعدها اعتقل الاحتلال 9 شبان من البلدة بينهم الأسير المبعد إلى غزة عطا فلنة وشقيقه. "محمد لم يخف أو يتوتر بل ذهب إلى عمله كالمعتاد، حتى أن الناس كانوا يضحكون عليه ويقولون له، جماعتك أخذوهم وأنت لأ" يقول أحمد.
ويتابع، "لم نتوقع ولو للحظة أن محمد له يد في الموضوع، لم تبدو على ملامحه التوتر أو الخوف. بعد اعتقال رفاقه وقبل اعتقاله بيوم ذهبت إليه وقلت له إن كان لك يد في الموضوع أخبرني، فضحك وقال، لا علاقة لي بشيء، وذهب في اليوم التالي إلى عمله كالمعتاد".
لم يظهر على محمد فلنة أي توتر رغم اعتقاله شريكه في تنفيذ العملية، بل ظل يمارس حياته بشكل اعتيادي
ويشرح أحمد تفاصيل اعتقال شقيقه قائلاً: "أثناء عودته من العمل كانت الشوارع ومفارق الطرق المحيطة بالبلدة كلها حواجز وانتشار عسكري رهيب، وكأن أحدهم أخبرهم أنه سيعود إلى المنزل في ذلك الوقت، الناس في السيارة مع محمد قالوا له اذا عليك شيء انزل ولكنه رفض، وعندها اعتقلوه بدأ المستوطنون بضربه".
اقرأ/ي أيضًا: الأسير رائد السعدي يحمل مفتاح السجن معه
يخبرنا أحمد بأن شقيقه محمد كان شخصًا اجتماعيًا ومرحًا ومحبوبًا بين العائلة وأهل البلد، "كانت داره دائمًا معمورة بسبب كثرة الناس والأصحاب الذين يزورونه"، مضيفًا أنه حتى الآن ورغم اعتقاله لا يُقصر في مناسبات البلد، إذ لا تمر مناسبة دون أن يطلب من أخوته أن يرسلوا هدية أو "نقوط" باسمه.
وتسمح سلطات الاحتلال لبعض شقيقات محمد بزيارته مرة واحدة في السنة، فلا توجد تصاريح زيارة مستمرة كما هو الحال لبقية الأسرى. "العائلة أصبحت كبيرة ومتفرقة وكل بيت له ظروفه، شقيقتي التي تعيش بالأردن مثلًا تأتي كل سنة خصيصًا كي تزوره مرة واحدة، وأخوتي لديهم تصاريح عمل في الداخل المحتل لم يقدموا طلب تصريح زيارة خوفًا من سحب تصاريح عملهم كما حدث مع شقيقي الذي قدم تصريح زيارة لمحمد فألغي تصريحه مباشرة".
رسالة واحدة وصلت الأسير فلنة عام 2009 نقلت له خبرين حزينيّن، خبر وفاة شقيقته بشكل مفاجئ دون أن يتمكن من توديعها، وطلب طلاق زوجته بعد 23 عامًا من الزواج، قضى منهن 17 سنة في سجون الاحتلال. "طلبت زوجته الطلاق قبل وفاة أختنا بوقت قليل، لم يكن أحد معه تصريح فأرسلنا له الورق للتوقيع عليه لإنهاء إجراءات الطلاق مع الصليب الأحمر الذي تأخر في تسليمها 4 أشهر، فوصل الخبر مع خبر وفاة أختي الذي نقله له المحامي في نفس الرسالة" يقول أحمد.
ويضيف، "لا نعلم كيف تلقى محمد الخبر، ولكن منذ اللحظات الأولى لاعتقاله طلب من زوجته أن يطلقها إلا أنها رفضت ذلك، ولكن مع مرور الأيام والسنوات فُقد الأمل واحتدت الأمور وصار الطلاق، وما زاد حزنه أكثر هو وفاة والدي بعدها بسنوات".
لا يزال محمد يطلب من أهله إرسال هدية أو "نقوط" باسمه في كل مناسبات بلدته
والأسير محمد واحد من 30 أسيرًا اعتقلهم الاحتلال قبل اتفاقية أوسلو، ورفض الإفراج عنهم بعد توقيعها، كما رفض الإفراج عنهم ثانية في إطار اتفاق مع السلطة الفلسطينية أبرمته حكومة نتنياهو، تضمَّن الإفراج عن جميع أسرى ما قبل اتفاق أوسلو مقابل استئناف المفاوضات، وهو الاتفاق الذي كان يُفترض تنفيذه على أربع دفعات، لكن الدفعة الرابعة أُلغيت من قبل حكومة الاحتلال.
يظن أحمد أنه "كان هناك تمييز في التعامل مع محمد في الصفقات، فتم استثناؤه بدايةً من قبل الاحتلال لأنه قتل مستوطِنَة، ثم تم استثناؤه من الأحزاب والتنظيمات لأنه كان جهاد إسلامي وحوّل إلى تنظيم فتح في السجن، فأُخرج رفيقه عطا في صفقة وفاء الأحرار وأُبعد إلى غزة، فيما ظل هو في سجون الاحتلال ينتظر الدفعات والإفراجات" كما يقول.
ورغم أن عائلة محمد تجهزت لاستقباله في اتفاق استئناف المفاوضات؛ ثم خابت آمالها وآماله بعد إزالة اسمه من الدفعة الثالثة، إلا أنه لا يزال يُأمل استعادة حريته بصفقة تبادل يومًا ما، ويقول إن أول شيء سيفعله عندما يخرج هو شراء قطيع من الأغنام والعمل في الرعي بالجبال.
الجبال، والوديان، البلدة والمناظر الطبيعية، وأرضهم التي كان يحب قطف زيتونها قبل اعتقاله، والأماكن التي كان يزورها، هي أكثر ما يشتاق إليه الأسير محمد، ويطلب من شقيقه دائمًا تصوريها وإرسال الصور له في كل زيارة.
الحياة تغيّرت في بلدة صفّا منذ 26 عامًا إلا أنها في مخيلة محمد لا زالت كما تركها، لا زال يحفظ الشوارع الرئيسية فيها، المنازل القديمة، الجبال المحيطة في البلدة. يقول أحمد: "لم يتخيل أن الحياة تغيّرت وأن البلد كبرت، يظن أنه اذا خرج من السجن سيعود إلى البلد والحياة كما تركها، لا يعرف أن كل شيء تغيّر".
في نهاية اللقاء مع شقيق الأسير محمد سألني عن عمري، قلت له، عندما اعتقل محمد كان عمري 11 يومًا فقط، فأجاب، "تخيلي كل الأشياء الي عملتيها، والأماكن الي زرتيها، والأمور الي تعلمتيها خلال سنوات عمرك أخي ما بعرفها وما شافها وما عاشها. عمرك هو ما غابه محمد عنا، الـ 26 سنة الي عاشهم أخوي بالسجن حياة كاملة لإنسان ثاني.. محمد ورفاقه ظلموا".
اقرأ/ي أيضًا: