09-سبتمبر-2017

ملثمون في جنين (اكتوبر 1991)، احتجاجًا على مؤتمر مدريد للسلام | PATRICK BAZ/AFP/Getty Images

لم يكن ينقص الحيّ السكنيّ الذي أعيش فيه، والمحاط بشتى أنواع الضّجيج، سوى مايكروفون مدرسيّ لا يعلو فوق صوته أيّ صوت آخر. بدأت الحكاية منذ العام الماضي، افتتحت مدرسة خاصة جديدة، وفي اعتقادي في ذلك الوقت، كان يجب أن تكون هادئة لأنّها خاصة، إلا أنّ العكس هو ما كان.

المايكروفون المدرسيّ كان آمرًا وناهيًا، موجّهًا ومحذّرًا، ومكافئًا. وفي الانتفاضة كان ثوريًا، مُحمِّسًا ومُهيّجًا.. لكن في سنوات أوسلو العجاف، ساد الصمت!

منذ بداية العام الدراسي وحتى نهايته، لا يتوقف المايكروفون المدرسي عن العمل، آمرًا وناهيًا، مراقبًا وموجّهًا، محذّرًا ومكافئًا. يبدأ الأمر صباحًا بما يمكن أن يطلق عليه مرحلة التجميع والضبط الأوليّ، ينتظم الطابور المدرسي، ومن ثمّ مرحلة التَّعبئة الوطنيّة والدينيّة. وبعد النّشيد الوطنيّ وقراءة الفاتحة على المايكروفون، تبدأ التوجيهات التي لا تنتهي.

إلّا أنّ ما لاحظته بشكل مطرد، هو قدرة هذا المايكروفون على نطق الأسماء. هذا الجهاز السحري، قادر على اصطياد أي طالب في أي مكان كان في المدرسة، بعيدًا أم قريبًا من موقع النطق. ويطلق أحد علماء الإجتماع الماركسيين، على إحدى أهم عمليات الضبط في المجتمعات الحديثة، اسم "المناداة". تشتمل هذه العملية على التحديد للأفراد، والتوجيه، والمراقبة، والدّمج بالإخضاع عن طريق القوّة أو الإختراق للمجتمعات. يصلح هذا الأمر إلى حد ما على مستوى مصغر عندما أفكر في هذه المدرسة. إنها عملية دمج ومراقبة وضبط ومعاقبة ومراقبة واستلام – في الصباح، وتسليم – في نهاية الدوام، كل هذا يحصل عن طريق المناداة حرفيًا وعمليًا، عن طريق هذا المايكروفون السحريّ.

اقرأ/ي أيضًا: سيتي إن.. من أبواب الانتفاضة الثالثة

أتساءل أحيانًا عن هذا الطالب الذي يحلمُ بأن يكون مشاغبًا. يحلم بأن يتمرّد على هذا الصوت المحايد البشع الصادر عن هذا الجهاز، عندما يسمع اسمه يُنطق. أتخيّله يقف أمام أحد جدران المدرسة، في نهاية الدوام، ولم يكن يطيق أباه في ذلك اليوم، وبعد دقائق، يوشك هذا الصّوت أن ينطق باسمه ليسلّمه لذويه عندما وفقط عندما يصل ذويه إلى المدرسة ليجلس في المقعد الخلفيّ وفورًا إلى البيتْ. في هاتين الساعتين التي يقضيهما الطالب بعد انتهاء الدوام الرسميّ وإلى أن يصل ذويه والمدفوع ثمنهما لراحة الآباء، يقضيهما الطالب يلعب أو يتكلم أو يفعل أي شيء بحرية كاملة، لكنها مضبوطة الأصل في الزمان والمكان. كان من الممكن، وأقول فقط من الممكن، أن يقضيهما في فعل شيء آخر، كالعصيان مثلًا.

المايكروفون في غرفة بيضاء في مقرّ المخابرات

كانت غرفة بيضاء تفوح منها رائحة الدهان الجديد. رائحة قاتلة بكلّ المعاني، والرطوبة لا تدع مجالًا للتنفس. صفوف من المقاعد في مواجهة الحائط وراء بعضها البعض. وفقط سماعة بيضاء صغيرة في زاوية من زوايا الغرفة. مجموعة من الرجال الكبار والصغار في العمر يجلسون بهدوء. لافتة تمنع الكلام والحركة. ولكنّها غرفة، بلا قضبان حديدية وبلا رجال أمن يقفون للحراسة.

اقرأ/ي أيضًا: في الخصوصية الفلسطينية

جميعنا كنّا ننتظرُ رقمًا واسمًا يصدر عن صوتٍ محايد هادئ وبارد من هذه السّماعة البيضاء الصمّاء. ومجرد أن يُذكر رقم ما أو اسم ما، تسمع صوت تنفّس يعبر عن راحة هائلة ينطلق صاحبه بعده ليبحث عن محققه. إنها عبقريّة الجهاز الأمنيّ الحديث. فلم يكن مظهر الغرفة يشي بأي شيء، إنها محايدة تمامًا ولا الصوت كان يشي بأي شيء كذلك، كان محايدًا أيضًا، وإلى حدٍ ما، فقد كان بإمكاننا الذهاب إلى الحمام في أيّ وقت نشاء ولم يكن يبعد سوى بضع خطوات، وكان بإمكاننا أن نتفس على الأقل. لكن أحدًا لم يكن قادرًا على الخروج من الغرفة إلّا إذا سمع اسمه ورقمه ينطق. وقد مرت على بعضنا ساعات وهو ما يزال جالسًا في مكانه. وأتذكر، أنني وجدت نفسي محملقًا في هذه السماعة الصغيرة أفكر في مايكروفون من نوع آخر في زمن آخر. كان أزرقًا وأبيضًا وكان مؤلفًا من سماعة كبيرة قليلًا وسلك لولبيّ أبيض يصل المايكروفون، وكنّا نتلهّف لسماع صوته ونبحث عنه، وكان يظهر من العدم فجأة كأنه سلاح سري لا يجب أن يظهر إلّا حين لا يستطيع أحد أخذه منّا.

المايكروفون الأزرق والأبيض في زمن الانتفاضة

قد يكون المايكروفون المدرسيّ أداة ضبط الإدارة المدنيّة، والسمّاعة البيضاء أداة ضبط الإدارة الأمنيّة، لكن المايكروفون الأبيض الصغير الموصول بسلك لولبيّ بسمّاعة زرقاء وبيضاء كبيرة، كان أداة ضبط وتهييج ثوريّة في الوقت ذاته. كان ذلك زمناً يستحقّ سماع المايكروفون فيه.

أيام الجمعة، أيام المظاهرات. في ليل الخميس، كانت تُعبأ غرفة صغيرة في مكان ما بالأعلام، وفي الوسط من هذه الأعلام، والأهم منها، كان يوضع المايكروفون الأبيض والأزرق وبجانبه عدد إضافي من البطاريات الحمراء والسوداء السميكة. وقبل انتهاء صلاة الجمعة بدقائق، كانت تظهر الأعلام وهي منتظرة على الجدارن المقابلة للمسجد، الأيادي التي ستحملها، وفقط عندما يكتمل الحشد، كانت الأيادي تتناقل بخفّة وبيسر ذلك الجهاز الثوري الصغير. ولا تكاد "المسيرة" تخطو خطواتها الأولى حتى ينطلق الصوت الأثير من المايكروفون. يتحلّق مجموعة من الشباب حول هذا الجهاز، الشباب الذين يعرفون الهتافات جيدًا، والشباب الذين يتناقلون المايكروفون بينهم كلّما بُحّ صوت أحدهم. كانت لحظة أبديّة بالنسبة لي حين حملت المايكروفون مرّة وأخذت أهتف بما كان يهمس لي به أحدهم.

اقرأ/ي أيضًا: الانتفاضة التي يريدها أبو مازن

لكلّ مايكروفون شابٌ يهتف، وشاب يمسك السمّاعة يتبادلان الأدوار، شابٌ إذا لم يكن متمرّسًا يمسكُ المايكروفون وورقة بيده يردد منها الهتافات، وإذا كان متمرّسًا فلا حاجة لأي ورقة، وشابٌ يمسكُ السماعة ويُعليها فوق رؤوس من حوله كي يصلَ الصوت أعلى مدى. كان يجب أن يكونا في المقدمة، محاطان بالأعلام وببعض الرفقة. أحيانًا يُرفعان على الأكتاف، وأحيانًا يُرفع من يهتف فقط. لطالما وقفا في مقدّمة المظاهرات على دوّار المنارة، أمام جامع عبد النّاصر الكبير في رام الله، في شوارع مخيّمات الضفّة، في شارع الإرسال في رام الله حينما كانت تعبر إحدى مسيرات الفصائل من جامع عبد الناصر الكبير وحتى المهرجان المركزيّ في شارع الإرسال. لطالما صدح صوت هذا المايكروفون الثوريّ فوق صوت مايكروفون الجيب العسكريّ الصهيوني المنادي بحظر التجوّل.

اليوم، لا أحد يخبّئ صوته من أجل مسيرة الغد كما كان يُخبّأ المايكروفون لمسيرة الغد!

كان أيضًا جهاز ضبط، وكان جهاز تعبئة، كانت عملية مناداة ثورية كاملة متكاملة، تختلف عن تلك المناداة المقصود منها الضّبط والمراقبة والمعاقبة. وأكاد أجزم أن بعض من أمسك السمّاعة من مقبضها الأبيض الذي يشبه بانحناءته انحناءة مقبض الكلاشنكوف، أحسّ ولو للحظات أنّه لم يكن يطلقُ صوتًا، بل كان يطلق رصاصًا من نوع مختلف.

اليوم، المسيرات صامتة وتعتمد على أصوات متداخلة ببعضها البعض، تعلو حينًا وتخفت حينًا. لا أحد يخبّئ صوته من أجل مسيرة الغد كما كان يُخبّأ المايكروفون لمسيرة الغد. ولم أرى هذا المايكروفون منذ سنوات، فقد اكتملت عمليّة الضّبط المدنيّة في سنوات أوسلو العجاف على ما يبدو، ولم يعد أحد بحاجة إلى مايكروفون مزعج كالمايكروفون الأزرق.


اقرأ/ي أيضًا:

منذر جوابرة.. عودة إلى دفتر الانتفاضة

"عيون الحرامية".. استعادة الانتفاضة الثانية

الانتفاضة حدثت.. أغلقوا باب الردة