15-يونيو-2017

يتجمع الأطفال عند "باب الساحة"، يحمل كلٌ منهم بيده فانوسه اليدوي، وعلى كتفه "كيس التحويجه"، كيس حلوياته التي يجمعها من الجيران والأقارب والمحلات التجارية، بعد "لفّة" خاصة للأطفال معززة بأهازيج خاصة. هذا الإرث الرمضاني غاب لسنواتٍ طويلة، ولم يبق منه إلا صورًا في ذاكرة "الختيارية"، وحكاياتٍ لازالوا يروونها بكثيرٍ من الحنين.

إنها نابلس، المدينة التي تحتفظ بكثيرٍ من الطقوس الخاصة و"الأفراح الموسمية" في ذاكرة فلسطين، غير أنها تفقد منذ سنواتٍ طقوسها تدريجيًا، انتقالاً من موسمٍ لآخر. "كان الوئام والحب يسود شباب وفتيان نابلس"، تقول شفاء عاشور عن ذكرياتها في رمضان، مضيفة، "لم أسمع يوما عن عراك بين شباب تطور إلى مشكلة قوية وأدت للقتل كما يحصل الآن، تغير كل شئ والله، حتى القلوب تغيرت والأوجه تبدلت والحقد ملأ بعض القلوب".

"السوق نازل" تقليدٌ في رمضان اشتُهرت به مدينة نابلس، وظلت تُحافظ عليه حتى تسعينيات القرن العشرين

تشير شفاء إلى سهرات الجيران في رمضان، وأكلة "الفقدة" الشعبية الشهيرة في نابلس، إذ اعتاد الأهالي أن يحضروا لبناتهم المتزوجات الحلويات والمكسرات والنقود خلال الشهر الفضيل.

اقرأ/ي أيضًا: "طبيلة رمضان".. هل سمعتم بهم؟

ولا تزال شفاء تذكر أهازيجًا كانت تغنيها مع بقية أصدقائها الأطفال، في احتفال "ع السوق نازل":

نزلت عالسوق نازل... لقيتلي تفاحة

 حمرا ... حمرا.. لفاحة

 حلفت ما باكلهي.. لييجي خيي وبيي

اجا خيي وبيي ... اطلعني عالعلية

 لقيت شب نايم

حاكاني.. حكيته وشربت من زيته

 زيته طعم الحنة.... معلق باب الجنة

 با جنة ما احلاكي... رب السما هناكي

 هناكي بمحمد

احنا التلاتة سوا.... متل عامود الهوا ....فينا وحدة طويلة

فينا وحدة قصيرة،  وفينا وحدة بترمي العقدة لورا

في تقليد "السوق نازل" تجهز الأمهات "كيس الحوايج"، فيعلقه الأطفال على رقابهم كما يُعلق عقد الذهب أو الماس في جيد الحسناء. "كان أغلى علينا من الماس والذهب، فهو عالمنا، وهو عنواننا في رمضان، نفرح به، وبكل ما قمنا بجمعه طول النهار من البيت أو من الجدة، والعمة، والخالة ونتباهى بما جمعناه من ملبس، وكعك، ومخلوطة مشكلة بأنواع القضامة والبزر، وقطعة قمر الدين، أو قزماط، أو قرشلة" تقول شفاء.

كيس حوايج صنعته شفاء لحفيدتها

هذه الحلويات أو "الحسنات" كما يطلق عليها نساء وأطفال نابلس، تُطلب من أصحاب المحلات، بـ"جوقة أطفالٍ" تقودهم فتاة، يرددون أناشيد معروفة تتناسب وصاحب "الدكان"، ليعطيهم شيئًا من موجودات مكانه.

تنشد الفتاة:

"عالسوق نازل"    ليردد البقية "يانازل"

"تحت المنازل"   ليردد البقية "نازل"

"عالسوق أطعمني"   ليردد البقية "كنافة"

"عالسوق اطعمني"   ليردد البقية  "بقلاوة"

ويستمر الغناء على هذا النحو حتى يردد الأطفال جميع ما يشتهونه من الحلويات و"الحسنات"، فيأخذوا حصتهم من أصحاب هذه المحلات ويعودوا بها إلى بيوتهم، ثم يتقاسمونها سوية مع أهاليهم، وفق حديث المؤرخ إحسان النمر.

وكان الأطفال، رغم حر الصيف، وطول نهاره يتمنُّون قدوم رمضان في الصيف، تقول شفاء: "نفرح كثيرًا إن كان رمضان في شهر الصيف؛ ففيه كان البطيخ يشكل جزءًا هامًا من سحورنا مع الجبنة البيضاء، وكان والدي يشتري البطيخ بعدد كبير لنحتفظ به تحت السرير دائما، المنطقة الأكثر برودة لحفظ البطيخ سالمًا".

وتضيف، "كان صاحب عريشة البطيخ يضع لأبي هدية، على البيعة، عددًا من البطيخات الصغيرات لنا لنفرح في رمضان، فتصنع والدتي لكل منا فانوسًا رمضانيًا طبيعيًا من بطيخة يُفرَّغُ داخلها ثم توضع فيه شمعة، وكان كل واحد منا يحمل فانوسه، لنسمع صوت أمي وهي تصيح من بعيد موصية أخي الكبير: دير بالك على اخوتك، وخليك ماسك بإيدهن".

ولم تقتصر أفراح رمضان على "السوق نازل"، بل كان الأهالي يجتهدون في إضافة فعاليات تزيد أجواء رمضان بهجة للأطفال والكبار. تقول شفاء: "في سهرة من سهرات رمضان، حضر إلى نابلس ملاكم عربي، وعملوا له حلبة في الدوار والتفّ الشباب كلهم، وأذكر أن الملاكم النابلسي الذي تقابل معه هو سمير عجعج (صاحب مطعم عجعج في سوق البصل). أخذني أخي معه، كنت صغيرة جدًا، لم أعِ إلا قليلاً من هذه الذكرى، فلا أذكر من فاز بها".

ولا تُعرف الفترة التاريخية التي نشأت بها هذه العادة الرمضانية، وإن كان الكثير من المهتمين بالتقاليد الدينية النابلسية يُرجعون العديد منها إلى الفترة الفاطمية التي صبغت أجواء نابلس بعادات وتقاليد تميزت بها عن بقية المدن.

يُرجع مهتمون بتقاليد نابلس تقليد "السوق نازل" إلى الفترة الفاطمية، وإلى جانب ذلك تنشط الصوفية وسهرات النساء، وتعمر المقاهي بالرجال

الحاجة باسمة الجد، تذكر "السوق نازل" منذ سنة 1958. تقول: "في شهر رمضان بعد صلاة المغرب كنا نتجمع نحن فتيات الحارة ونلف السوق، من سوق البصل وباب الساحة، ما كنا نبعد أكثر، حول منطقة سكننا، وننشد أناشيدًا ونشتري حلويات وذرة وفول وملبس وقضامة". في ذلك الوقت، كانت النساء يسهرن معًا، فيما يرتاد الرجال المقاهي، وكانت تخرج "عدة الشيخ نظمي"، وهي من الصوفية النابلسية التي كانت تنشط في تلك الفترة، فيضربون على الطبل ويغنون.

اقرأ/ي أيضًا: الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس

تقول باسمة: "تراث وانتهى، وذهبت أيامه، كان يبقى من بعد أذان المغرب وحتى أذان العشاء".

أحمد حرز الله ستينيٌ عاصر "السوق نازل" منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، من خلال موقعه في بقالته بمنطقة "باب الساحة" في نابلس العتيقة، وهي الساحة التي كانت موقعًا لتجمع الأطفال والباعة. يُرجع حرز الله انتهاء هذا التقليد بشكله التراثي إلى توسع البلد، وامتداد العمران، يقول: "صار كل شيء متوفر خارج البلدة القديمة، والموجود هون موجود برا، لهيك خفت شوي شوي الحركة"، مؤكدًا، أن تقليد "السوق نازل" استمر حتى تسعينات القرن العشرين.

ويضيف، كانت العربات تتجمع هنا في هذه الساحة، وكان منظر الأطفال جميلاً جدًا، الآن بعد الإفطار أفتح دكاني ولا أجد أي طفل يلعب هنا في هذه المنطقة، فـ"السوق نازل" مات. اليوم عصر الإنترنت، وكل الأولاد يحملون الأجهزة ويشاهدون كل شيء، فلم نعد نرى أحدهم هنا".

يبين حرز الله الذي يتواجد في "باب الساحة" منذ 40 عاما، أنه عاصر "السوق نازل" منذ كان يلعب ويبيع. يقول إنه يتذكر القناديل التي تُصنع من البطيخ، وتُفتح منها نوافذ وتشعل شمعة، "كانت أيامًا سعيدة جدًا وهادئة كلها محبة ومودة" وفق تعبيره.

في السنوات الأخيرة أعادت فعاليات نابلس الاحتفال بـ"السوق نازل"، بعد منتصف شهر رمضان، بطرق حديثة، ووفق برامج محددة، تشترك بها فرق الصوفية والباعة المتجولون، كما تم تسجيل أناشيد "السوق نازل" إحياءً لهذه العادة، ولمنع اندثارها.


اقرأ/ي أيضًا: 

"أعطيتك ابنتي".. هكذا كانت تزوج الفتيات 

نابلس.. مآذن تحكي تاريخًا

عن تاريخ الصيدلة في فلسطين.. صور