لمئات السنين، حافظت نابلس على عادات كانت، حسب باحثين، خاصة بأهلها دون بقيّة المدن الفلسطينية، غير أنها اندثرت خلال العقود الأخيرة، أو تحوّلت اجتماعيًا. إحدى هذه التقاليد "الختامة"، وهي عادة، وسلوك اجتماعي يتم من خلاله الاحتفال بمن ختم/ ختمت قراءة القرآن الكريم بعد مدارسته طيلة سنوات، ويحمل هذا الاحتفال الشعبي أساسًا، بعض الأبعاد الرسمية من خلال المدارس التي ختم فيها الطالب دراسته للقرآن.
هذه العادة كانت مثار فخر وسعادة للأهل وللطالب الخاتم للقرآن، وهي السعادة التي بدت بشكل واضحٍ أثناء أحاديث الذين عاشوا تلك التجربة الغنية بمشاعرها، ومعانيها. فالحاجة زاهرة المصري، التي احتفلت بختمها للقرآن في منتصف القرن الماضي، ارتسمت البهجة على وجهها وهي تستقبلني، من خلال إعدادها للحلويات النابلسية الشهيرة، في محاولة استرجاع ولو لجزئية من حفلها الذي لازالت فرحته مختزنة في لا وعيها.
"الختامة" تقليد قديم اختص بمدينة نابلس، يحتفل فيه الأهالي بأبنائهم الذين ختموا تلاوة القرآن بعد مدارسته
وتقول زاهرة عن حفل الختامة الخاص بالفتيات: كان المعلمون يبدؤون معنا تدريس تلاوة القرآن من الصف الأول الابتدائي، ويجب علينا أن نختمه تلاوةً عندما نصل إلى الصف السادس. ففي نهايته تقيم كل مدرسة حفل ختامةٍ لكل طلاب هذا الصف، ويُحضّر الأهالي للحفل، البدلات البيضاء للفتيات كأنه يوم تخرجهن، فالعائلة تكون بانتظار فرحة إنهاء مرحلة الصف السادس وقدوم حفلة الختامة بشغف قلّ نظيره في مناسبات أخرى.
اقرأ/ي أيضا: الاستقبالات النابلسية.. رحلة في عالم النساء المنسي
وكان يتم تحديد يوم الختامة من قبل مديرة المدرسة في الفترة الأخيرة من الصف السادس. وكان شهر أيار/مايو يطلق عليه شهر الختامة، وتضيف أم زيد "كُنّا نرتدي الفستان الأبيض".
ويتبع احتفال المدرسة إحضار الأهالي لسياراتهم المزينة إلى باب المدرسة، ليزفوا أطفالهم لمنازلهم بزفة مشابهة لزفّة العرس، حيث تجتمع العائلة في المنزل على مأدبة غداء، وتقيم احتفالًا يشارك فيه الأهل والأصدقاء والجيران. وكانت توزع الحلويات، وقراطيس الملبس العادي، وملبس على لوز و"السلفانا"، والتوفي، فيما كان البعض يقرأون المولد النبوي تبركًا بهذه المناسبة الهامة.
وتضيف الحاجة زاهرة، "كانت حفلة الختامة تمتد إلى ثلاثة أيام (مباركة) لدى بعض العائلات التي كانت ميسورة الحال، ويمكنها تحمّل المصاريف المتعلقة بالاحتفال لهذا الوقت، وكان يتخللها حفلة تغني فيها النساء ويمتلئ البيت بالزغاريد والضرب على الطبلة".
هذه الفرحة كانت لا تقتصر على حارة "الحبلة"، مكان سكن الحاجة زاهرة، وإنما تتعداها لتشمل مدينة نابلس، إذ كان شهر الختامة في المدينة شهر فرح وسرور، وفيه يأخذ الآباء أبناءهم إلى المدارس ليشاهدوا احتفالاتها بهذه المناسبة الجميلة.
قد يستمر الاحتفال بـ "الختامة" لثلاثة أيام، وفيه تُظهر العائلات ابتهاجها بختم أبنائها لتلاوة القرآن، ويجري ذلك في أيار من كل عام
ويحتاج هذا الاحتفال من الأهل إلى إعداد مسبق له، بتهيئة مادية ومعنوية، كما قالت الحاجة أم غازي سقف الحيط. فالفتيات يرتدين البدلات البيضاء، والصبيان يرتدون بدلاتٍ رسميةٍ، وكانوا يُحضرون لهم كيس مصحف من قماش "الستان" الأبيض والمطرز بالأبيض، ويوضع به المصحف ويربط قماشٌ عريضٌ ليضعه الخاتم على كتفه الأيمن ويمد على خاصرته من جهة اليسار، في جهة القلب.
اقرأ/ي أيضا: مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط
كما اعتاد أهل نابلس أن يصنعوا في هذا الاحتفال كرسيًا للختامة عند أحد نجاري المدينة، وكان يُصمم بشكلٍ بيضاويٍ بارتفاع مترين وله قاعدة من الخشب، بعرض مترٍ واحد، ويُغطى بقماش "الستان" الأبيض، ويُزين بشكلٍ جميلٍ وأنيق.
وتقول أم غازي: "أذكر الخياطة المرحومة وصفية الخياط، التي كانت تخيط القماش، وكانت تُدخل على الوردات البيض خرز اللؤلؤ وبرق، حيث يصبح المنظر ملفتًا للأنظار، وكانوا يضعونه على ظهر السيارة التي كانت تذهب لإحضار خاتم القرآن من المدرسة بعد انتهاء الاحتفال".
وتستذكر "أم غازي" احتفالات الختامة بسرورٍ بان على مُحيّاها ثم تضيف، "كانت النساء تُعد لهذا اليوم الأغاريد والأغاني الخاصة بهذا الاحتفال":
ايويها صلوا على محمد ايويها حتى يلين الحديد
ايويها وختمة مباركة أيويها وعقبال كل حبيب
ايويها وصلوا على محمد ايويها وحتى تلين الحجارة
ايويها و ختمة مباركة ايويها مكسب ماهي خسارة
الباحث الجغرافي هاني العزيزي والذي أنهى حفل ختامته في العام الدراسي 1958-1959، حيث كان يدرس في مدرسة الغزالية، شرح لنا الحفل الذي كان يجري للفتيان، والذي كان أكثر جمالاً من حفل الفتيات، حسب قول الحاجة "زاهرة".
يقول العزيزي مشتاقًا: "تبدأ المراسم بإبلاغ إدارة المدرسة للطلاب باليوم المحدد لختمهم القرآن الكريم، لإبلاغ ذويهم، الذين يبادرون لإبلاغ الأقارب لمشاركتهم فرح المناسبة. فقد ختم المحروس العلم (القرآن)، ومن هنا جاء مصطلح الختامة".
وكان الاحتفال يتم بموجب تنسيقٍ بين مدراء المدارس والتربية والتعليم، إذ يكون لكل مدرسةٍ يومٌ واحدٌ لتجنب أي إرباكٍ لدى العائلات، ومنعًا للتضارب في أيام الاحتفالات في المدارس.
ويضيف العزيزي، "وفي اليوم المضروب يلبس الطلاب حللهم الجديدة ويحمل كل واحد منهم مصحفه الشريف والمحفوظ في كيس من الستان الأبيض اللامع المطرز. وللكيس حمالة تُعلق بالكتف ويكون المصحف على جانب الطالب".
ويتابع، "ويحمل الطالب معه كيسًا من علب الملبس المحشو باللوز أو أكياس (قراطيس) الملبس مع بعض الملبس دون تغليف، ويجلسون في صفهم، و يرتل أحسنهم صوتًا بعضًا من القرآن الكريم، ثم يغادر الطلاب الصف مرورًا بطاولة المعلم، ويضعون علب أو أكياس الملبس أمام شيخهم الجالس، الذي يكون قد أعدّ للأمر عدته بإحضار حقيبة أو كيس كبير مناسب لنقل الملبس المُقدّم له، إلى بيته".
كانت "الختامة" تحظى باهتمام رسمي، وتُخصص التربية والتعليم يومًا لكل مدرسة للاحتفال بها، لتجنب الإرباك ومنع التضارب في أيام الاحتفالات
ويبين العزيزي، أن الأهل ينتظرون أولادهم عند بوابة المدرسة، ويحمل كل أبٍ ولده مُقبّلاً إياه ويضعه في سيارةٍ أُعدت لهذه الغاية، موضحًا أن موكب الطالب قد يضم أكثر من سيارة، وذلك وفق الحالة المادية لذويه.
وتضع بعض العائلات "كرسي الختامة" وتربطه فوق حجرة قيادة السيارة. ويعلق العزيزي، بأن "كرسي الختامة" لا يشبه الكرسي ولا يستعمل للجلوس، فهو مجرد هيكلٍ خشبي.
ويضيف، أن السيارات تجوب شوارع نابلس الرئيسة مطلقةً أبواقها، وسط زغاريد النسوة الجالسات فيهن، قبل أن تنتهي الرحلة في منزل والد الفتى على طاولةٍ مرتفعةٍ في صدر البيت، حيث يُعلق المصحف الشريف الذي يحمله الطالب في الكرسي ليتدلى في وسطه.
ويشير العزيزي إلى أنه في حال عدم وجود كرسي ختامة، يُعلق المصحف على جدار الغرفة الرئيسة في البيت، مضيفًا، "كان في بيت جدي، كرسي ختامة واستُخدم عندما ختمتُ القرآن الكريم. وكان الكرسي يُعار لمن يرغب من الأهل و الجيران". ثم تابع، "قدّم الأهل لي نقوطًا ماليًا بلغ عدة دنانير".
وكان الخاتم، في بعض الأحيان، يركب حصانًا، بدل السيارة، لابسًا ثيابًا بيضاء، وتسير زفته يتقدمها طبال. فكان ختم القرآن الكريم بالنسبة لسكان نابلس حدثًا مهمًا له معنىً خاص، ولذلك كانت زفة الخاتم تلاقي ترحيبًا خاصًا من أهل الحارات التي كانت تمر بها، على حد قول نجوى عبد الهادي في مذكراتها.
اقرأ/ي أيضًا: الكنافة حين تعطي للمدينة شيئًا من مذاقها
فيما أشار شوكت لبادة "أبو عماد"، إلى أنه و في بعض الأحيان كان ينهي الطالب دراسته عند ختامة القرآن، ولا يكمل بعد ذلك تعليمه ليعمل مع والده في صنعته.
وأضاف بحزن، "انتهت هذه الظاهرة لأن الناس في الماضي كانوا يهتمون بالقرآن أكثر، وكان المشايخ يشجعون الطلاب على قراءة القرآن، وتجويده. أما الآن فيدرسون القرآن بشكل أقلّ في المدارس الحكومية".
وتابع، "أقرأ الآن ثلاثة أجزاء من القرآن يوميًا، وختامة القرآن الإجبارية في الماضي ساعدتني الآن على قراءة القرآن بشكل أيسر". ويوافقه في ذلك العزيزي، في تحليله لانتهاء ظاهرة الختامة في الستينات من القرن العشرين، إذ يقول: "انتهت الظاهرة هذه لأن تغيُّر المناهج قلّل من حصص مادة القرآن الكريم. وتحول الأمر إلى قراءة وحفظ بضع آيات مختارة وسور مختارة، ولم تعد مادةً مستقلةً للقرآن الكريم كما كان سابقًا".
يعتقد من عايشوا "الختامة" أن تراجع الاهتمام بختم القرآن تلاوةً ودراسةً في المدارس أضعف اللغة العربية عند الأجيال الجديدة
ويوضح أن ما قبل النصف الثاني من القرن الماضي، كانت حصة تسمى تلاوة القرآن وليست مادة للتربية الإسلامية، مبينًا، "رغم أنه لم يكن هناك دورٌ لعلماء الدين المسلمين في مدينة نابلس في الاحتفال بالختامة، إلا أن من كان يُدرِّسُنا هو موظف مدرس ومعلم من الأوقاف أو المعارف في وقتها، و كان يطلق عليه اسم شيخ ويلبس الزي التقليدي للمشايخ".
أما الحاجة زاهرة المصري فتعزو ضعف الأجيال الحالية في التعبير والقراءة إلى انتهاء ختامة القرآن، "ما أثّر على لغة أبنائنا ووركاكة كلماتهم، بل إن منهم من لا يعرف القراءة والكتابة"، كما تقول.
وتضيف، "كنا في الماضي نُحاسب على الحركة للكلمة، والآن لا يقرأون سوى سورٍ متفرقةً من القرآن، ونسبة التلاوة خفت أكثر من الماضي، ولذلك كان جيلنا أقوى في الكتابة والتعبير، واللغة أدق وأكثر صحة".
وترى زاهرة، أن الختامة انعكست على سلوكيات الفتيات في تلك الفترة، "كان جيلنا أكبر من بنات جيل هذه الأيام من ناحية العقل والركازة (الاتزان)، وأعتقد أنه بسبب التربية الصحيحة والتدريس الصحيح. ففي الماضي كان هناك احترامٌ كبيرٌ للمعلمات، وعندما نلتقي بهن في الطريق نغير الطريق خوفًا و احترامًا، ليس كهذه الأيام".
وتشهد محافظات الضفة الغربية وقطاع غزة مؤخرًا محاولاتٍ لإحياء تحفيظ القرآن الكريم من خلال لجان مختصة، لكن ذلك لم يأخذ الشكل الاجتماعي القوي الذي كان سابقًا، وما يزال الاهتمام بختم القرآن أقل انتشارًا، رغم أن الاحتفالات بذلك ما تزال ماثلةً في ذاكرة من عايشها حتى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: