02-يونيو-2019

ككل مرة تتسرب فيها صور لقاءٍ تطبيعي، يشعر الناس بدنسٍ يمس الشهداء في خلودهم، وحرقة ملحٍ يُرشُّ على أجساد الجرحى، وعتمةٍ أخرى في ليل الأسرى الطويل.

يجلس فلسطينيون وإسرائيليون على موائد عامرة، ويتبادلون الحديث عن أهمية السلام والعيش المشترك، وحديثًا آخر عائمًا أقرب إلى مواضيع التعبير التي يتغنى فيها طلبة الصف السابع بالبحر، وهم الذين لا تتجاوز معرفتهم له عيْن القرية التي جفت، أو بركة آسنة خلفها شتاء قاسٍ في إحدى حُفر شوارعنا الكثيرة.

حديث هؤلاء عن "العيش المشترك" يشبه كتابة هذا الطالب عن البحر، فلا يمكن لمجرمٍ أن يصحو ضميره وهو موغلٌ في إجرامه

حديث هؤلاء عن "العيش المشترك" يشبه كتابة هذا الطالب عن البحر، فلا يمكن لمجرمٍ أن يصحو ضميره وهو موغلٌ في إجرامه، مع ضحيةٍ ما زالت ندوب العذاب على جلدها، إلا إذا قررت الضحية أن تنسى! 

اقرأ/ي أيضًا: هل تنهار السلطة في نهاية تموز؟

اللافت أن الوجوه الفلسطينية في هذه اللقاءات هي نفسها، وهي لا تحفل بكل "الثرثرة" الشعبية، وباتت أكثر راحة أمام الكاميرات التي كانت تختلس صورًا لوجوهٍ خجلة، حتى صارت الصور تظهِر ابتساماتٍ غير آبهةٍ بكل الغضب والصراخ والشتائم.

صورة من الإفطار التطبيعي

وهذه الوجوه هي وجوهٌ فلسطينيةٌ رسمية، لهم مناصب رفيعة في السلطة، وهم -إذ يذهبون إلى هذه اللقاءات- يذهبون كجزءٍ من عملهم الوظيفي الذي يتقاضون عنه راتبًا من دافع الضرائب للحكومات المتعاقبة التي لا تكف عن التغني بإنجازاتها في كل الصعد، لكن على الأرض "إني لأفتح عيني حين أفتحها، على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا"، فهذه الإنجازات محض ادعاءاتٍ وتلاعبٍ ماكرٍ بالأرقام، ليظنها المواطن تحسنًا اقتصاديًّا بيّنًا، ويقنع نفسه أن البؤس الذي يعيش فيه نتاج سوء إدارته، فالأرقام لا تكذب!

الحكومات تكذب، وهؤلاء يكذبون أيضًا.

وتشبه مخرجات هذه اللقاءات الأحاديث الحكومية الدائمة عن الحكم الرشيد ومحاربة الفساد والتنمية والنهوض بالاقتصاد المحلي، هي زبدٌ خفيفٌ على شواطئ البحر، يصلح ليتغنى الشعراء بجماله، لكنه لحْظيّ وزائل، ليظل البحر هو الحقيقة المخيفة، بكل ما فيه من أسرارٍ وخبايا وسفنٍ غارقةٍ توهّم راكبوها أنهم إلى موانئ الأمان ذاهبون، لكنهم في القعر الآن، لأن ربان السفينة انشغل بصيد السمك، ولم يلتفت إلى القرش الذي ظل يضرب جسد السفينة إلى أن غرقت بكل من فيها.

وكي تكون الأمور في سياقها الصحيح، فإن هذه اللقاءات تتم برعاية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، منظمة التحرير الفلسطينية، وعبر "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"، وهذا يعني أن الهجوم على المشاركين فيها، وفقط، هو انشغالٌ بالهامش على حساب المتن، فهؤلاء يقومون بدورٍ وظيفي، لا يشعرون بالخجل إزاءه. هؤلاء إطار الصورة فقط، وعلى بشاعة الإطار، فهو ليس أبشع من الصورة نفسها!

في صفحة "المنسق" (الإدارة المدنية الإسرائيلية الجديدة بربطة عنق)، على الفيسبوك، يدور جدلٌ قريبٌ من هنا، شتائم لشهيد لأنه "عكّر" التسهيلات و"نغّص" على الناس الصلاة والابتهال والدعاء وأخّر تحرير القدس، وتساؤلٌ عن "الجدوى"، في تجاهلٍ كاملٍ للفكرة البكر عن شعبٍ محتلّ يقاوم محتله بكل الوسائل المتاحة. وفي ظل غياب منظومةٍ قادرةٍ على توجيه هذا الفعل المقاوم، أو الرغبة فيه، فإن الخيارات الفردية قراراتٌ شجاعة، يمكن أن يكون لك رأي فيها، لكن الرأي الحاسم فيه لصاحبها، الذي برقت عيناه في لحظة توتر وانقضّ أسدًا.

هذه حالة تشويهٍ كاملة، تسير إليها المؤسسة بوعيٍ كامل، حتى تصبح العودة عنها فعلاً خارجًا عن السياق

استطرادًا، ليس صدفة أن تكون لفظة "المحتل" اسم فاعل واسم مفعول، وعليك أن تبحث عن قرينةٍ توضح لك المعنى، وإلا فإن الأمر سيلتبس عليك، ولن تميز بين القاتل والضحية! ولعل هذا ما يحدث في لقاءات "التعايش المشترك" التي يرعاها محتلون ويحضرها محتلون ويكرهها محتلون ويدافع عنها محتلون!

وهذه "المحتلون"، للصدفة، جمع اسم فاعل وجمع اسم مفعول، وهنيئًا لمن لم يجد عناءً في تمييز المعنى هنا!

كانت أصوات هؤلاء عند "المنسق" خافتة، لكنها اليوم صدّاحة، كَثُر أصحابها، حتى باتوا فريقًا كاملاً له صوتٌ نشاز، لكنه يشوش على صوت الكرامة الحقيقية. ولا يمكن فصل ما يحدث هنا، كحيزٍ ضيقٍ وافتراضي (!) عما يحدث عندما تتصافح الأيدي على موائد العيش المشترك.

هذه حالة تشويهٍ كاملة، تسير إليها المؤسسة بوعيٍ كامل، حتى تصبح العودة عنها فعلاً خارجًا عن السياق، ليس فقط لدى أجهزة المؤسسة، بل حتى لدى كثيرين ممن باتت لديهم مكتسباتٌ خاصة، سيحاربون كل القيم والمثل في سبيل الحفاظ عليها.

وغير بعيدٍ عن لقاءات التطبيع والتنسيق، فإن حكاية رواتب الوزراء تكمل المشهد ولا تخرج عنه.

في اللحظة التي يتحول فيها أي "مشروع وطني" إلى مشروع استرزاقٍ وفسادٍ عفن، يصبح تدجينه أمرًا في منتهى السهولة، وتصبح الولاءات للحزب والعشيرة والجماعة، أهم ألف مرة من الوطن. سيظل الوطن حاضرًا، لكن كشعار يصلح للتجارة به فقط.

التطبيع والتنسيق والفساد، كل هذا يحدث باسم الوطن، الذي صار عند كثيرين نثريات مكتبٍ وبنزين سيارة وفاتورة جوال، وسلاحًا مخيفًا، لكن لعصافير السماء فقط!


اقرأ/ي أيضًا: 

سلطة مقاصة

وهم الحرية

كنسوا شوارع البحرين