الدولة الحديثة هي تلك البقعة الجغرافية التي تستطيع الدولة بسط سيطرتها الضريبية عليها، ومهمة الجيوش التي تحرس الحدود هي بسط سلطة الدولة الضريبية على البضائع التي تدخل هذه البقعة أو تخرج منها، فأجهزة الدولة المختلفة خاصةً الجيش المنتشر على الحدود هدفه تمكين الدولة من بسط سلطتها الضريبية، فبغير ذلك لا يوجد دولة مهما كانت مساحتها أو عظمت قوة جيشها، وهذا ما يعرف باسم الدولة الوطنية.
من غير اللائق أن نصف "المُقاصة" بأنها خدمة فوضت بها السلطة الفلسطينية سلطة الاحتلال للقيام بها نيابة عنها، بل تعني إقرارًا فلسطينيًا بسلطة دولة الاحتلال على الحدود
في كل دول العالم يكون فرض السلطة الضريبية على الحدود نتيجة لعمل الدولة وليست الدولة نتيجة لجباية الضرائب، إلا أن هذا المنطق كان معاكسًا في نظرية نشوء السلطة الفلسطينية، فالسلطة قائمةٌ نتيجة المردود الضريبي الذي يتحقق ليس بفعل سلطتها بل بفعل سيطرة دولة أخرى على حدودها المفترضة، وقيامها بجباية الضرائب نيابة عنها، واستعاضت عن مفهوم سلطة الدولة الضريبية بمفهوم لم يكن يستخدم من قبل هو "المُقاصة"، وبذلك لم تحقق السلطة الفلسطينية أهم وظائفها الحيوية.
اقرأ/ي أيضًا: المنسق يرحب بكم في معبر قلنديا
"المُقاصة" بلغة الاقتصاد تعني خصم جزءٍ من الدين الأعلى قيمة بين شخصين كلاهما دائنٌ ومدين في ذات الوقت، وهي ذات طابعٍ ماليٍ لا تحمل أي معنى سياسي، وقد تكون بين أفراد أو مؤسسات، بينما جباية الضريبة هي من صلاحية الدول السيادية، وصلاحيات الدول السيادية لا تفوض، لذا من غير اللائق أن نصف "المُقاصة" بأنها خدمة فوضت بها السلطة الفلسطينية سلطة الاحتلال للقيام بها نيابة عنها مقابل عمولة مقدارها 3%، بل تعني إقرارًا فلسطينيًا بسلطة دولة الإحتلال على الحدود، بل تعاملت إسرائيل مع الأمر باعتباره شأنًا داخليًا وليس اتفاقًا بين طرفين، وحين قررت إسرائيل اقتطاع جزءٍ من أموال الضرائب الفلسطينية (المُقاصة) تعادل قيمتها تلك التي تقدمها السلطة الفلسطينية كمخصصات لعائلات الأسرى والشهداء، أقر الكنيست قانونًا خاصًا لهذا الغرض، ينصُّ على أن تقوم وزارة الجيش الإسرائيلية، بإعداد بياناتٍ عن قيمة الأموال التي تدفعها السلطة الفلسطينية لذوي الأسرى والشهداء، ليتم خصمها شهريًّا من المستحقات المالية للسلطة الفلسطينية.
مجموع المبالغ التي تحولها إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية من أموال "المقاصة" نحو 8.72 مليار شيكل (2.4 مليار دولار) تمثل 68.4% من إجمالي الإيرادات، أي يبلغ متوسّط قيمة إيرادات المقاصة التي تجبيها إسرائيل وتحولها للسلطة الفلسطينية، نحو 180 مليون دولار أمريكي، وفق أرقام وزارة المالية الفلسطينية. وبذلك فإن إيرادات المقاصة هي المصدر الأساسي التي تعتمد عليه السلطة في إدارة شؤونها، وبدونه لن تكون قادرة على البقاء، ووفقًا لذلك تصنف "المقاصة" سببًا والسلطة نتيجة، وهذا معاكسٌ لفرضية الدول.
إسرائيل تريد أن تتحكم بآلية صرف الأموال الممنوحة إلى السلطة الفلسطينية، وهذه سابقة خطيرة تهدد وجود السلطة الفلسطينية ككل
القرار الإسرائيلي باقتطاع أجزاء من المقاصة مقابل ما يدفع لأسر الشهداء والمعتقلين الفلسطينيين يعني أن إسرائيل لا تريد أن تتحكم فقط في جباية الضرائب على البضائع القادمة إلى السوق الفلسطيني، بل تريد أن تتحكم بآلية صرف الأموال الممنوحة إلى السلطة الفلسطينية، وهذه سابقة خطيرة تهدد وجود السلطة الفلسطينية ككل، تهددها إن نجحت إسرائيل في التحكم في آليات الصرف، وتهددها إن استمر وقف تحويل هذه الأموال، خاصة أن السلطة الفلسطينية ترفض استلامها منقوصة.
اقرأ/ي أيضًا: سلطتان من ورق وحطب على عامود خيمة المنسق
اللافت للانتباه أن السلطة الفلسطينية تتعاطى مع القرار الإسرائيلي باعتباره قرارًا سياسيًا يمكن تجاوزه في بعض اللقاءات التي يعقدها مسؤولون فلسطينيون مع نظرائهم الإسرائيلين، وتتناسى أن القرار الإسرائيلي باقتطاع هذه المبالغ هو قانونٌ أقر في الكنيست الإسرائيلي بالقراءات الثلاث على مدار شهور عدة، وإلغاؤه لايمكن أن يكون إلا بموجب قانونٍ جديدٍ يمر بذات المراحل، وليس بموجب قرارٍ يتخذه وزير المالية الإسرائيلية باستئناف دفع الأموال المستحقة دون اقتطاع.
الطريقة الأمثل التي كان يتوجب على السلطة الفلسطينية اختيارها ليس الضغط فقط من أجل إعادة الأموال دون اقتطاع، بل تقديم تبريرٍ أخلاقيٍ للعالم أن هذه الأموال تدفع إلى عائلات الشهداء والمعتقلين وهي ليست مصدرًا للعنف، فالأموال التي تدفعها الحكومات الغربية كالضمان الاجتماعي أو غيره إلى عائلات الأفراد الذين ارتكبوا جرائم جنائية لا يمكن تفسيره بأن هذه الحكومات تشجع العنف، بل إن بعض الحكومات لا تقتطع رواتب الشيخوخة لمن هم في السجن بتهم جنائية، وتعتبر هذه الرواتب حقًا لهم ولأسرهم، وهذا يمهد لشن خطابٍ حقوقيٍ ضد الإجراء الإسرائيلي، ليس فقط من باب مخالفته لاتفاق وقعته إسرائيل مع منظمة التحرير، بل من باب حماية حق الأسر المنكوبة في الرعاية الاجتماعية، ويمكن للسلطة والمنظمات الحقوقية الفلسطينية أن تقوم بتجنيد المؤسسات الحقوقية الدولية ومجلس حقوق الإنسان لاعتبار ما تقوم به إسرئيل بمثابة مساسٍ بحقوقٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وعقابًا لأشخاصٍ أبرياء على أعمالٍ لم يفعلوها، وبذلك تسند السلطة دعمها لأسر الشهداء بغطاءٍ حقوقيٍ يتقبله العالم.
إن ذلك لا يحول دون أن تعيد السطة النظر في اتفاقياتٍ وقعتها كاتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي، فمن غير العدل أن تبقى السلطة ملحقة بالمقاصة، بل الأصل أن تكون الجباية الضريبية هي الملحقة بالسلطة، وإلا فإن من مصلحة الفلسطنيين إلقاء كل العبء في الحضن الإسرائيلي، فهي قبل كل شيء سلطة احتلالٍ وفرض عليها القانون التزاماتٍ واجبةٍ تجاه الشعب الذي تحتله.
اقرأ/ي أيضًا:
القضية الفلسطينية خارج الوعي.. هل من انبعاث؟