لم تقتصر الحملة الإسرائيلية على النائب العربي في الكنيست، باسل غطاس، ولن يكون فصلها الأخير ضخ المؤسسة الصهيونية أكاذيب وتلفيق تهم هنا وهناك. فنواب التجمع الوطني الديمقراطي الذين يفضحون إرهاب الدولة المنظّم، ويكشفون هشاشة المؤسسة القضائية الإسرائيلية، ويُعرّون زيف ادّعاءات المواطنة التي يناضل أصحاب الأرض لتثبيتها في وجه سياسة الأسرلة والطمس، يخضعون لممارسات إسرائيلية أقلُّها رمي تهم "مساندة الإرهاب".
المؤسسة الإسرائيلية وظّفت قدراتها الأمنيّة لكسر شوكة أهل البلاد الأصليين، عبر الترهيب والملاحقة للنوابهم وممثليهم
لقد وجدت المؤسسة الصهيونية في "التجمع" المحور الأساس للهجمة على النواب العرب خلال العقد الماضي، بالنظر لتنامي دوره داخل مجتمعه، وبالتالي فإن الاستراتيجية الصهيونية تقوم على محاولة كسر وترهيب نوّابه ونبش القوانين العنصرية بين الفينة والأخرى، وقد اتضّح ذلك بشكل سافر مع قياداته ابتداءً بالمؤسس عزمي بشارة، ومرورا بجمال زحالقة وحنين زعبي، فضلًا عن حملة الاعتقالات الأخيرة التي استهدفت قيادات ونشطاء التجمع، ولن تنتهي بقضية النائب باسل غطاس.
على ضوء الاستهداف المستمر لحزب التجمع وقياداته وكوادره ونشطائه، تبرز قضية النائب باسل غطاس كحلقة متصلة بالهجمة التي تقودها المؤسسة الأمنية و"القضائية" الإسرائيلية المنفذة لبعض معالم هذه السياسة بوضع صيغ استراتيجية للملاحقات القضائية والأمنية وصولًا لمرحلة الشطب والإلغاء، وهو ما عبّر عنه أكثر من مسؤول إسرائيلي وصل بعضها للمطالبة بالتصفية الجسدية للنواب العرب والاعتداء على بعضهم، غير أن ما يثير بموازاة الحملة الصهيونية على نواب التجمع، ملازمتها لبعض الأصوات الحزبية في الداخل الفلسطيني، التي تبنت الادّعاء الإسرائيلي وقامت بغرس وترويج المفارقات والتباينات بينها وبين التجمع باعتبار "إقدام غطاس على تهريب الهواتف" يعدُّ عملًا خارج القانون، متناسية أنّ الهجوم على النواب العرب له في تفاصيله وحكاياته ما استفاض وضوحًا إسرائيليًا بالنية والهدف والسلوك، تجعل من تصاعد نضال السكان الأصليين ضامنًا أساسيًا في معركة وجودهم.
الانسلاخ بواسطة إشاعة المفاهيم الإقليمية والمناطقية المحضة للحيلولة دون استنفار مشاعر الغضب وإفراغ هذه المشاعر من أيّ فعالية أو تأثير، ظنّا من البعض أن سجّله عند المؤسسة الصهيونية سيبقى ناصعًا دون إدراك أنّه أداة لتمرير وتنفيذ سياسات القمع والإرهاب بشتى الوسائل. يتبدى هذا الانسلاخ بردود الفعل التي تصاحب الاستهداف المستمر لممثلي الأحزاب والقوى الوطنية داخل المناطق المحتلة عام 48.
خلال العقدين الماضيين أي مرحلة ما بعد أوسلو، واجه أصحاب البلاد حالة انسلاخ فلسطينية رسمية وعربية عنوانها الأبرز أن " الأقليّة العربية/ أصحاب البلاد" تحولوا في الذهنية الرسمية الفلسطينية والعربية لشأن داخلي إسرائيلي، وما يقع عليهم من سياسات الطمس والإذابة والأسرلة والتهجير لا تعني أيًا من سياسات الفلسطينيين الرسمية، وفي أبعد أو أحسن الحالات العربية، لا تغدو عن حالة استعمالية شأنها شأن الشعار المتداول عن القضية الفلسطينية كبضاعة سياسية مغرية لعرضها على الشارع العربي وكسب تأييده.
الأسس التي تعاطت بها السياسة الفلسطينية مع السكان الأصليين في مناطق الـ48، هي توجيه اللوم لهم بتعكير العلاقة مع الإسرائيلي
الأسس التي تعاطت بها السياسة الفلسطينية مع سكان فلسطين الأصليين في مناطق الـ48، هي توجيه اللوم لهم بتعكير العلاقة مع الإسرائيلي، وهو لوم وعتب تقتسمه مع بعض الأحزاب "العربية" داخل الخط الأخضر، ضدّ سلوك بعضها الآخر الذي وجد طريقًا مختلفًا ومنفلتًا من عقال الأحزاب الإسرائيلية، أفصحت عنه ملاحقة النواب العرب مؤخرًا في غمرة تفتيش بعضها عن نوايا الملام والمختلف بتوجهاته التي تؤرق المؤسسة الصهيونية، ومن بعدها الفلسطينية والعربية بمراقبتها الإجراءات الإسرائيلية مع تمني مفضوح بنجاح المؤسسة الصهيونية في لجم نضال الشعب الفلسطيني.
تشكِّل الكيدية السياسية والشماتة من باب النكاية بمواقف حزب التجمع ومؤسسه من الثورات العربية، مرجعية لبعض المواقف المتفرّجة على حملة الاعتداء على نوابه، وتصوِّره على أنّه المسؤول عن تدهور العلاقة مع الإسرائيلي وبعض النُظم العربية الني ترتكب مجازر ضدّ شعبها، وضدّ الشعب الفلسطيني، واللهث عبر إظهار التجمع خارج قانون المؤسسة الإسرائيلية "التي أنيط بها مهمة الحفاظ على القانون"، وبالتالي فلا يمكن لوم المؤسسة الصهيونية بمعنى أن المعتدي يساوي المعتدى عليه.
اتهام النائب باسل غطاس وقبله مراد حداد وحنين زعبي وجمال زحالقة وعزمي بشارة إلى آخر عضو مستهدف من التجمع أو من الأحزاب العربية الأخرى، يدلل على أنّ الحملة من ألفها إلى يائها، تستند إلى حزمة من التزييف والتشويه الممنهج الذي يعمل وفقه تلاميذ بن غوريون. كاميرات الاحتلال المتربصة بغطاس داخل "سجن كتسيعوت" كشفت المأزق الأخلاقي الذي يعيشه البعض المتربص بالنواب العرب.
مجزرة قلنسوة والتحديات الخطيرة
إقدام جرافات الاحتلال على ارتكاب مجزرة بحق 11 منزلًا بهدمها في قلنسوة بوقت واحد، يعبّر عن فصل متصل بالهجمة على سكان البلاد واقتلاعهم من أرضهم، العراقيب في النقب هدمت مائة مرة، في كل مرة تحد ورفض ومواجهة لسياسة القمع الصهيونية، لكن ما الذي يجعل موازاة الهجمة على النواب العرب وتكثيف عمليات الهدم والاقتلاع لمنازل سكان البلاد الأصليين إلّا حالة الاستخفاف والاستعلاء الممارسة ضدهم، ومن جهة أخرى سياسة الفصل والانسلاخ الممارسة فلسطينيًا وعربيًا ضد أصحاب الأرض باعتبارهم "قضية إسرائيلية" لا يجوز التدخل في شؤونها.
في ظلّ هذا المناخ وعلاماته الفارقة، يجب تثبيت حقيقة أنّ "الأقلية" العربية في مجتمعها تواجه على مدار عقود النكبة حملة التزوير التي تقود لتحجيمها، وما الرد على هدم البيوت والمظاهرة الحاشدة في قلنسوة إلّا تعبير عن رفض فرض إجراءات عدوانية على الشعب الفلسطيني، وتوليد حالة من الضغط الشعبي على الاحتلال هي أبسط مستلزمات الصمود لسكان البلاد الأصليين الذين وحدهم خبروا طريقة التعاطي مع تمادي المؤسسة الصهيونية الهادفة لإحكام الخناق على الشعب ونوابه، وإلزامه بتقديم تنازلات تمس وجوده التاريخي، وعلى قاعدة هذا الحضور القوي الذي يسجله الشعب الفلسطيني فوق أرضه يمكن الإطاحة بسياسات المؤسسة الصهيونية، وهو ما عبّرت عنه لجنة المتابعة للجماهير العربية داخل الخط الأخضر.
كما يجدر أن نثبت حقيقة ثانية، وهي أنّ فشل المؤسسة الإسرائيلية في تحقيق ضربة أمنية وقضائية ضد النواب العرب ليجري استثمارها في مزايدات حكومة نتنياهو، تحمل أبلغ الأدلة على أنّ استهداف قلنسوة أو النواب أو العراقيب مستمر بأشكال أشد "حذاقة" وعنصرية.
وإذا كان يصعب على أيِّ متتبع سياسي ألّا يلحظ السيناريو الممجوج لسيناريوهات راجت في العقدين الأخيرين من استهداف ممثلي القوى والأحزاب العربية في الداخل الفلسطيني، واستوجب الأمر انقضاء سنوات حتى اقتنع البعض بخوائها، فإننا نكتفي بكشف بعض الأوهام القاتلة الممسك بها البعض، ومنها:
وهم الظن أنّ المؤسسة الصهيونية يمكن أن تقدّم حلولًا دون دفع تكلفة نضالية ما زال أصحاب الأرض يدفعونها كل يوم، في معادلة مواجهة الأسرلة والشطب.
وهم الانسلاخ عن أصحاب الأرض التاريخيين، الأمر الذي ترى فيه المؤسسة الصهيونية حالة داخلية تسمح لها الاستفراد بهم كما تشاء، كما يظن بعض البائسين والمتأسرلين.
في ظل الاختلال الساحق في موازين القوى، وتراجع الإسناد والدعم الرسمي الفلسطيني والعربي لنضالات الداخل الفلسطيني، واستفحال قوى الطغيان في المحيط العربي، نؤكد على نحو قاطع استغلال المؤسسة الصهيونية لهذا الاختلال، بتصعيد الهجمة ضد الشعب الفلسطيني.
وإذ نسجل هذه الأوهام، نكشف جهلًا فاضحًا بطبيعة المؤسسة الصهيونية، فإذا كان المطلوب بالأمس، مواجهة تلك التحديات بمزيد من رص الصفوف وقراءة حركة المؤسسة الصهيونية ومواجهتها، بات القفز فوق العنصريات والتكتلات الحزبية، شرطًا مُهمًا اليوم، لثبيت وغرس ما حافظت عليه الحركة الوطنية داخل فلسطين التاريخية، وهي رسالة النواب العرب "القضية لن تنتهي بقلنسوة ولن تبدأ بملاحقة النواب".
اقرأ/ي أيضًا:
الهجمة سياسية.. دعوات لرص الصفوف دعمًا لـ"التجمع"