28-أغسطس-2019

عند وضع سلوك وزير المالية المؤتمن شكري بشارة الذي أعاد مالاً أخذه دون وجه حق، وتصريح زميله وزير العمل السابق مأمون أبو شهلا الذي أعلن دون لجلجة عن رواتب فلكيّة كان يدفعها لموظفيه - موظفي الدولة؛ تظهر الصورة واضحة: كلا الرجلين فعل ما فعل بثقة كاملة أنه بمنأى عن المساءلة، بل وأنه محميّ بالقانون.

كلا الرجلين فعل ما فعل بثقة كاملة أنه بمنأى عن المساءلة، بل وأنه محميّ بالقانون

أما الأول، فقد ظهر بطلاً في البداية قبل أن تذهب سكرة الفرح بسلوكه "النبيل"، وتأتي فكرة مطالبته، وعددًا من زملائه، بمال دون وجه حق، وقبوله، فيما تعاني ميزانية الحكومة الموات، وفيما تئن الطبقات المسحوقة، ويطلب منها الوزير وصحبه شد الأحزمة، لأننا في أزمة مالية!

اقرأ/ي أيضًا: سلطةٌ تشغلها دوسة على مكبح بنزين

وأما الثاني، فظهر متصالحًا مع ما يقول، دون أن يفكر مرتين بالمعركة التي خاضها الشعب لرفع الحد الأدنى من الأجور، وهو يرفض، لأن الحد المقرّ، وغير المعمول به في عدد من المهن، كافٍ تمامًا ليعيش الأجيرون بكرامة!

يأتي هذان التصريحان على خلفية صياح فيسبوكي لرئيس الوزراء السابق رامي الحمد الله، يطالب وزير ماليته بكشف المستور، فيما يشبه مناكفة الأولاد في الحارة: "فلّت وأنا بفلّت"!

الصورة الكلية تبني نظامًا كاملاً من استغفال الشعب والاستقواء على ماله، أخذًا ومنحًا ومنعًا، وبالقانون!

الصورة الكلية تبني نظامًا كاملاً من استغفال الشعب والاستقواء على ماله، أخذًا ومنحًا ومنعًا، وبالقانون!

على أن هذا النقاش كله يحيل إلى مقولة مريد البرغوثي في "رأيت رام الله": "يكفي أن تبدأ حكايتك بـ(ثانيًا) حتى ينقلب العالم.. يكفي أن تبدأ حكايتك من (ثانيًا)، حتى تصبح ستّي أم عطا هي المجرمة وأرئيل شارون هو ضحيتها".

يحدث هذا، لأن "أولاً" غائب. لأن القانون مغيّب، أو يكيّفه المتنفذون على مقاسهم، كي يتحركوا بحرية.

النقاش حول ما فعله الوزير الأول، وقاله الثاني، وهدد به رئيسهما السابق؛ نقاشٌ إجرائي.

اقرأ/ي أيضًا: ممالك الطوائف الفلسطينية

النقاش الذي يبدأ من: كم هو المبلغ، وكيف حسبه؟ وكم سيدفع كل وزير؟ وكم هو المبلغ المدفوع؟ وكم سنوفّر على الخزينة من مجمل هذا "الحفلة"؟

هذه هي أسئلة ثانيًا.

لماذا يستقوي الوزراء على القانون، وهم يده القوية؟

ولماذا يخرقونه، وهم من يرتقون فتقه؟

ما الذي تفعله الأجهزة الرقابية وهيئة مكافحة الفساد والمؤسسات الحقوقية؟

وكي توضع الأمور في نصابها، فإن تقارير المؤسسات الرقابية، تشير في كثير من الأحيان إلى اختراقات وتجاوزات للقانون وحالات هدر للمال العام، لكنها تظل تقارير استرشادية، لا يسترشد بها أحد، وتنتهي آثارها بعد انتهاء المؤتمر الصحفي الذي أعلنت خلاله.

الناطقون باسم الحكومة والوزارات على رؤوسهم الطير، وقد أكلت العصافير ألسنتهم. هم، والوزراء المعنيّون، يطلّون في بعض الأحيان يحملون مقصًّا ليفتتحوا شيئًا ما، ثم ليحصدوا الكثير من "منوّر"، والكثير جدًّا من "قائد بحجم وطن"، ثم يختفون في السرمد.

إن "أولاً" المطلوب، هو إحكام يد القانون وسدّ ثغراته وتفعيل هيئاته، فلا يعقل أن تكون السلطة التنفيذية هي الخصم والقاضي والحكم.

"أولاً" المطلوب، هو إحكام يد القانون وسدّ ثغراته وتفعيل هيئاته، فلا يعقل أن تكون السلطة التنفيذية هي الخصم والقاضي والحكم

على أن "أولاً" الذي احتلّ الصدارة في هذا المعمعان، هو القرار الرئاسي بإلزام هؤلاء الوزراء بإرجاع ما أخذوه خلال فترة محددة، والأصل أننا لسنا بحاجة إلى قرار. ثمة قانون يجب أن يكون هو الفيصل وفقط.

وكم كان ليكون الفرح أشمل، لو لم يكن القرار الرئاسي يغطي فترة بعينها.

إن هذا يعني أن الخلاف ليس على تلقي الوزراء هذه المبالغ، كلا كلا.

الخلاف هنا على توقيت الصرف، لا أكثر.

الخلاف أيضًا يبدأ من "ثانيًا"!

حسن، أما وقد تجاوزنا "أولاً" الإشكالي أصلاً، وقفزنا إلى "ثانيًا" المنقوص، فلا بأس في أن نكمل "ثالثًا".

هل يكفي أن يعيد الوزراء الذين أخذوا مالاً ليس من حقهم، ما أخذوه، وكفى الله المؤمنين القتال؟

أليس الأجدر أن يكون القانون بالمرصاد، ليأخذ على يد المسيء؟

اللطيف في كل ما جرى أنه يبدو كجولة من "طوشة" الأولاد في الحارة، فقد قال الرجل الغاضب على الفيسبوك "فلّت"، فرد الوزير الأول و"فلّت"، وأعاد الكرة إلى ملعب خصمه.

ليست الحكاية هنا انصياعًا للقانون كما تبدو، إنما ضربة تحت الحزام في "الطوشة". كأنه يقول: أتتركونني وحيدًا؟ حسنٌ. هلموا وادفعوا.


اقرأ/ي أيضًا: 

لوحاتٌ من مدن النار والقش

سائق السكودا الذي يحب البامية!

وهم الحرية!