قبل أيام، كتبتُ في الفيسبوك عن سائق سيارة سكودا، خضتُ معه سباقًا في طريق بين مدينتين.
وقبلها، كنت كتبت عن "البامية"، ذامًّا لها، بالتزامن مع موعد قطافها وبيعها وتغزّل الناس فيها.
كتبت عن الموضوعين، وضحكتُ على التعليقات، وأغلقت الكمبيوتر وانصرفت إلى شؤوني.
إلا أن الأمر لم ينتهِ هنا. لقد سألني بعض الأصدقاء عن سائق السكودا، ونصحوني بالتعرف عليه، لأنه لطيف، كما يبدو من البوست!
كما عاتبني آخرون على كرهي للبامية، واقترحوا طرقًا لطبخها، ستجعلني أحبها بكل تأكيد.
ما يحدث في الفيسبوك ابن مكانه، وليس كل ما يقال فيه له استطالات في الواقع
أحاول، ككثيرين، التعاطي مع الفيسبوك كفضاء افتراضي، وأحسب الخط الفاصل بينه وبين الواقع، فما يحدث في الفيسبوك ابن مكانه، وليس كل ما يقال فيه له استطالات في الواقع.
اقرأ/ي أيضًا: السيد "تيك - توك"
ثمة جنس كتابي صار اسمه "بوست"، وهذا لا يصلح أن يكون في صحيفة أو زاوية رأي أو كتاب، هو جنسٌ يصلح لمكانه، يلبي شروطه، ويلائم ساكنيه، وهو كالسمك، إن خرج من الفضاء الأزرق، فقد القدرة على التنفس.
ولكثرة انغماس الناس في هذا الفضاء الافتراضي، على حساب الواقع المعيش، فقد حدث ما يشبه تبادل الأدوار بين المكانين، حتى صارت الحياة الكاملة تجري في الفيسبوك، وتلاشت العلاقات الفردية، أو تضاءلت، في الشارع والبيت والعمل.
يتداول المصريون مقولة لطيفة. يقولون: الخبر الذي لم ينشر في "الأهرام" لم يحدث.
ويزداد تقديرهم لأثر هذه الجريدة، فيقولون: من لم يُنشر نعيه في "الأهرام"، فكأنه لم يمت.
نعم نعم، إلى هذا الحد!
وهذا الرأي نُقل أيضًا عن صحيفة القدس الفلسطينية في زمن ازدهارها، فقد استنسخت المقولة ذاتها وقالت: من لم يُنشر نعيه في "القدس"، فكأنه لم يمت.
ما كانت الصحف تتفاخر به، صار اليوم حكرًا على منصات التواصل الاجتماعي، فما لا يُكتب عنه في الفيسبوك فلسطينيًّا، كأنه لم يحدث.
ولم يعد التواصل الوجاهي والنقاش الشفوي والحديث الحميمي، مهمًّا اليوم، في ظل التواصل والنقاش والحديث عبر الفيسبوك، ولا حتى بديلاً له.
ولم تعد التعزية "بالأحضان" كافية إن لم يرفقها صاحبها بتعزية افتراضية.
لم تعد الفرحة الحقيقية "بالقُبَل" في أي مناسبة بديلاً عن التهنئة والفرح وقلوب الحب الحمراء على الفيسبوك
ولم تعد الفرحة الحقيقية "بالقُبَل" في أي مناسبة بديلاً عن التهنئة والفرح وقلوب الحب الحمراء على الفيسبوك.
وهذا الأمر تطور.
اقرأ/ي أيضًا: وهم الحرية!
لقد بدأت تظهر حالات إدمان مَرَضية على هذا الفضاء، لم يعد المصابون فيها قادرين على الابتعاد عنه دقائق، بل يشعرون أن الكون سيتخلخل إن فاتهم شيء.
ليس هذا وفقط، فقد خلق التورّط بهذا الفضاء، واستسهال القول فيه، حالات من ادّعاء المعرفة والقدرة على الحديث في كل شيء، فالمجانية ليست خيرًا كلها.
ثمة أشخاصٌ لا يفعلون شيئًا في الحياة إلا التعليق على كل الأحداث، واجتراح حلول لأي إشكال، ليس بالمعنى الشخصي فقط، بل أيضًا بالمعنى الكوني.
هؤلاء لديهم حلولٌ لمعضلة الاحتباس الحراري وثقب الأوزون، ولديهم آراء حاسمة لا تحتمل النقاش حول الحرب في سوريا وأزمة السودان والملف النووي الإيراني، بل ولهم آراء "نقدية" في الفن والأدب، وفي كل شيء، حرفيًّا.
أتفهّم تمامًا كل من يصلون إلى مرحلةٍ يقررون فيها تعطيل حساباتهم في الفيسبوك، مؤقتًا، فهذه حالة إدراك واعية لمشكلة تورّط فردية، إضافة بالطبع إلى الصبغة الاستهلاكية لهذا الفضاء، التي تشغل رواده عن الحفر عميقًا فيما يطوّر من مهاراتهم وقدراتهم الشخصية والوظيفية.
وأتفهّم أيضًا من لم يتورطوا في هذا الفضاء أصلاً، واكتفوا بحياتهم الحقيقية، كخيار وحيد، عاشوه بمنتهى الرضا والشجاعة، بعيدًا عن "الجمال" الوهمي و"الدعة" الخادعة.
ولعل كثيرين منا يحتاجون بين حين وآخر إلى فترة نقاهة من الفضاء الأزرق، ليستعيدوا فيها توازنهم، ويثبتوا أقدامهم في الواقع، مع نظرة تقييمية لمدى التورط فيه، وأثر ذلك على سير حياتهم.
الكتابة المصممة لهذا الفضاء تستعير من الواقع لقطة واحدة وتبني عليها مشاهد وأحداثًا لا أثر لها على الأرض
بقي أن أقول إن كثيرًا من الكتابة المصممة لهذا الفضاء تستعير من الواقع لقطة واحدة وتبني عليها مشاهد وأحداثًا لا أثر لها على الأرض، وهي مجرد أخيلة تحاكي كل الأجناس الأدبية.
ولعلها سانحة كي أقول إن سائق السيارة اللطيف الذي التقيتُه بين مدينتين، لم يكن يسوق "سكودا"، بل كان يقود شاحنة مرسيدس ضخمة!
لكن تجاوز شاحنة ليس بطولة، ونحن نحب أن نكون أبطالاً في هذا الفضاء.
ولعل المشهد كله لا أصل له، لكنها شهية السرد.
الحقيقة الوحيدة التي لا مجاز فيها أن البامية طبخة لا تطاق!
أما عنوان المقال أعلاه، فهو ما قد يجذب القارئ لقراءته، وهو مبني على افتراض غير علمي آخر: سائقو السكودا يحبون البامية!
اقرأ/ي أيضًا: