الترا فلسطين | فريق التحرير
رغم أن المجازر الإسرائيلية لم تتوقف في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، واقتراب عدد الضحايا من 10 آلاف شهيد، إلا أن إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة وضعت لها هدفًا منذ أول الحرب، وهو القضاء على حركة "حماس"، ورغم أن الهدف تقلّص إلى تدمير قدرات "حماس" العسكرية، إلا أنها بقيت متمسكة بإنهاء سيطرة حماس على القطاع من خلال تكرار السؤال عن "اليوم التالي" بعد هزيمة "حماس" التي لم تحدث حتى الآن.
لا يسيطر هذا السؤال على الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية فقط وما يقدمانه من سيناريوهات، بل امتد ليشمل "المقاطعة" في رام الله، رغم ضعفها وتآكل شرعيتها في الضفة الغربية التي تسيطر على مناطق منها أمنيًا، لكن اللافت كان تقديم شخصيات فلسطينية مثل رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض والقيادي الفتحاوي المطرود من الحركة والمدعوم إماراتيًا محمد دحلان تصورات حول "اليوم التالي لقطاع غزة بعد حماس".
السؤال برز في لقاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع الرئيس محمود عباس، اليوم الأحد، وهي الزيارة الأولى من بلينكن لرام الله منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة. ورغم التعتيم الكبير على ما جرى في الاجتماعين: المغلق مع عباس والموسع مع القيادة الفلسطينية، إلا أن "رويترز" نقلت عن بلينكن قوله لعباس "إن السلطة يجب أن تلعب دورًا مركزيًا فيما سيأتي بعد ذلك في غزة".
وتابعت الوكالة البريطانية عن مسؤول في الخارجية الأمريكية: "اجتماع بلينكن وعباس لم يتناول مستقبل غزة، لكن السلطة الفلسطينية بدت مستعدة للعب دور". من جهتها، نشرت وكالة الأنباء الرسمية "وفا" عن اللقاء من تأكيد وتشديد عباس على أن "قطاع غزة هو جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، وسنتحمل مسؤولياتنا كاملةً في إطار حل سياسيٍ شامل على كل من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة"، وجدد "التأكيد على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي صاحبة القرار حول كل ما يخص الشعب الفلسطيني".
هل قدم فيّاض ودحلان أوراق اعتمادهما للإدارة الأمريكية؟
قدم رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سلام فياض ما أسماه بـ"خطة سلام في غزة"، في مقال نشره عبر موقع "Foreign affairs" الأمريكي، بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول بعنوان "خطة للسلام في غزة"، وعرض رؤيته حول ما يتعين على حركة حماس والسلطة القيام به. المقال الذي كُتب باللغة الإنجليزية، ونُشر على موقع أمريكي، يفتح المجال لتساؤلات حول الدافع الحقيقي وراء طرح إعادة التشكيل الهيكلي للسلطة، وإن كان يعني ذلك اقتراح سلام فياض نفسه للإدارة الأمريكية كجزءٍ من أي تشكيل مستقبلي.
رغم إبعاد عباس لفيّاض قسرًا عن المشهد السياسي، وإصدار النائب العام قرارًا بالحجز على جميع أموال مؤسسة "فلسطين الغد" التي أنشأها وترأسها فياض في الضفة الغربية، بتهمة غسيل الأموال في يونيو/حزيران 2015، ما اضطره للاستقرار في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن فيّاض أبقى على قنوات تواصله مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية مفتوحة. كان آخرها مشاركته في مؤتمر "إسرائيل 75"، في نيسان/أبريل الماضي، للاحتفال بـ"إقامة" دولة الاحتلال، بمشاركة عدة مؤسسات صهيونية أمريكية، ومجموعات اللوبي اليهودي، ورئيس دولة الاحتلال بتسحاق هرتزوغ ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك.
اتفق القياديان المغضوب عليهما من سلطة رام الله، على أن حماس يجب أن تكون جزءًا من الحل المستقبلي
ودعا سلام فياض في مقاله إلى ما وصفه بـ"وقف الاندفاع نحو الهاوية"، وطالب حماس بـ"إطلاق سراح المدنيين الإسرائيليين الذين تحتجزهم دون قيد أو شرط". فيما شكك في استعداد السلطة الفلسطينية بتشكيلها الحالي لتحمل مسؤوليات حكم غزة بعد الهجوم الإسرائيلي المدمر، مضيفًا: "حتى لو سعت إلى القيام بهذا الدور، فإنها لن تكون قادرة على ذلك، خاصة وأن شرعيتها تتلاشى بسرعة تحت ضغط الحرب المستمرة".
ولكنه رأى أن إعادة تشكيل السلطة الفلسطينية بشكل "صحيح" من الممكن أن يوفر الخيار الأفضل للمستقبل، الذي قد يخلق، على حد تعبيره، "جهدًا" إقليميًا ومدعومًا دوليًا لإنهاء الاحتلال، وذلك ضمن إطار يعالج نقاط الضعف الهيكلية التي "أفسدت عملية السلام على مدى العقود الثلاثة الماضية".
وأدرج سلام فياض خطوات تبدأ بضرورة اعتراف "إسرائيل" رسميًا بحق الفلسطينيين في دولة ذات سيادة على الأراضي التي تحتلها منذ عام 1967، وأن تتبنى منظمة التحرير الفلسطينية برنامجًا يعكس وجهات النظر الفلسطينية حول ما يشكل تسوية مقبولة، بينما تحافظ على مسار يؤدي إلى حل الدولتين عن طريق التفاوض. وهو ما يتناقض في بعض أجزائه، مع ما اقترحه مسبقًا في مقال كتبه لموقع "الإيكونوميست" الأمريكي، في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بأن المبادئ التي ينبغي أن يقوم عليها التصور المستقبلي الجديد هو حل "الدولة الواحدة"، مع المساواة الكاملة لجميع المواطنين، أو "حل الدولتين" عن طريق التفاوض.
ووصف سلام فياض استمرار غياب الفصائل الفلسطينية، مثل حماس عن منظمة التحرير الفلسطينية بـ"الشذوذ"، مضيفًا أن برنامج منظمة التحرير الفلسطينية يفقد شعبيته بشكل مطرد لدى الجمهور الفلسطيني، مؤكدًا وجوب اتخاذ برنامج سياسي جديد، وخطوات ملموسة لإشراك الفصائل غير الأعضاء، وتوسيع عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة لتشمل التمثيل الكامل والفعال للقوى السياسية التي لا تدعم نهجها الحالي أو لا تتعامل معه.
وكخطوة قبل أخيرة، رأى أن على السلطة الفلسطينية، من خلال حكومة توافق عليها منظمة التحرير الفلسطينية الموسعة، تولي السيطرة الكاملة على إدارة شؤون الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال فترة انتقالية متعددة السنوات، وخلال تلك الفترة، ستكون جميع التفاهمات بين "إسرائيل" والسلطة مدعومة بــ"التزام متبادل صارم باللاعنف". وفي نهاية تلك المرحلة، ستجري السلطة الفلسطينية انتخابات وطنية في موعد يتم الاتفاق عليه في بداية الفترة الانتقالية.
فيّاض الذي عمل منذ 2002 إلى 2007 وزيرًا للمالية، ومن 2007 إلى 2013 رئيسا للحكومات الفلسطينية المتعاقبة، ورفع لواء بناء المؤسسات للتحرر وحاز على دعم أمريكي وثقة إسرائيلية، في مسعى فشل بسبب "الاحتلال وممارساته" حسب قوله، لا يوضح ما الذي قد يجعل هذا النموذج مختلفًا عن عقود طويلة من المفاوضات الفاشلة والوعود بالسلام، خصوصًا وأن من يسيطرون على السلطة في إسرائيل متطرفون أكثر من أي وقت مضى، ولا يعترفون حتى على سبيل البلاغة الدبلوماسية بحل الدولتين. وعلى نفس النحو، فإن السيناريو الذي يقترحه لا يبيّن كيف ستوافق "فتح" على دمج "حماس" و"الجهاد الإٍسلامي" وغيرها من الفصائل التي تحمل برنامجًا مقاومًا، في المنظمة التي تفقد مع الوقت قدراتها الفعلية وحتى الرمزي على تمثيل الفلسطينيين.
في هذا السياق، يرى المحلل السياسي بلال الشوبكي في تصريحه لـ"الترا فلسطين" أن خطة سلام فياض هي محاولة للوجود السياسي على الساحة، كـ"رجل المراحل الانتقالية، يجد في نفسه طريقًا ثالثًا أمام القوى الإقليمية والدولية، أكثر من كونه طريقًا ثالثًا أمام الفلسطينيين"، مضيفًا أن المنظور الذي قدمه هو المنظور الغربي لما بعد الحرب. يحاول فياض، كما يرى بلال الشوبكي، أن يطرح نفسه أيضًا فلسطينيًا على أنه من الأطراف القادرة على فتح قنوات مع جهات دولية، وكذلك إمكانية وصوله لدوائر أوسع من الدائرة الأمريكية، "وأن يجعل من ورقته أرضية للنقاش لدى القوى الأوروبية والأمريكية".
محمد دحلان.. مشهدٌ سياسيٌ بدون عباس
يملك دحلان تاريخًا سيئًا في قطاع غزة، فقد تم تكليفه من الرئيس ياسر عرفات بتأسيس جهاز الأمن الوقائي عام 1994، وقام بالإشراف على تعذيب قادة وعناصر حركة "حماس" في القطاع، و أدانه القضاء الفلسطيني في ديسمبر/كانون الأول 2016 باختلاس مبلغ يزيد عن 16 مليون دولار خلال توليه منصب منسق الشؤون الأمنية للرئاسة الفلسطينية، وطالبه برد تلك المبالغ. ورغم أن الحركة أظهرت براغماتية في السنوات الماضية لفتح صفحة جديدة معه، واستقبال زوجته جليلة التي كانت تنفق مئات آلاف الدولارات في غزة في مشاريع إغاثية وإنسانية، إلّا أن حركة "فتح" وتحديدًا الرئيس أبو مازن ظلّت متمسكة بقطيعتها معه، وذلك بعد أن وقع أبو مازن بوصفه رئيسًا للسلطة ولحركة "فتح" قرارًا بفصل محمد دحلان من الحركة، وإنهاء أي علاقة رسمية لها به، وإحالة القضايا التي تخصه سواء كانت جنائية أو مالية إلى القضاء، وذلك بناء على قرار لجنة التحقيق التي رفعت توصياتها بذلك في 12 يونيو/حزيران 2011. ومنذ أن هرب دحلان من رام الله وهو يعيش في الإمارات ويعمل مستشارًا أمنيًا لأميرها.
أدرجت مجلة الإيكونوميست مقابلة مع دحلان، في 30 أكتوبر/تشرين الأول، تحدث فيها عن رؤيته لـ"اليوم التالي بعد هزيمة حماس" في إطار مستقبل قطاع غزة. كما اقترح فترة انتقالية لمدة عامين مع إدارة يديرها تكنوقراط في غزة والضفة الغربية، مدّعيًا أن هذا "قد يؤدي إلى إعادة توحيد الأراضي الفلسطينية بعد أكثر من عقد من الاقتتال الداخلي"، ولكنه رفض أن يطرح نفسه كأحد الخيارات "لتنظيف الفوضى بعد القتال"، ومع ذلك، حسب ما نقلت المجلة فقد "حدد بحزم أوراق اعتماده للقيادة"، فهو على حد تعبيره، "يعرف غزة والإسرائيليين جيدًا، ولديه علاقة قوية مع حاكم أبو ظبي"، مضيفًا أنه تمكن من استقدام 50 مليون دولار سنويًا إلى غزة.
ونقلت الإيكونوميست صورة عن إمكانية "إجراء انتخابات برلمانية على أساس دولة فلسطينية ذات حدود غير محددة في تلك المرحلة". من شأن هذا النظام البرلماني، كما ذكرت الإيكونوميست، أن يؤدي إلى وجود رئيس وزراء لقيادة الفلسطينيين، وهذا يعني على ما يبدو حسب دحلان التخلص من الرئاسة التي يشغلها حاليًا الرئيس محمود عباس، حيث أكد "أنه من الوهم أن يتمكن رجل واحد من حل القضية الفلسطينية".
طرح دحلان ليس جديدًا، كما يقول المحلل السياسي هاني المصري لـ"الترا فلسطين"، مضيفًا أن دحلان قدم رؤية مشابهة جدًا عام 2005، تقوم على إدارة ذاتية لقطاع غزة منذ أن انسحبت إسرائيل منها عام 2005. وتابع المصري: دحلان في رؤيته يريد القول" أنا أستطيع إدارة قطاع غزة".
دحلان وفياض: "حماس" لن تختفي
اتفق القياديان المغضوب عليهما من سلطة رام الله، على أن حماس يجب أن تكون جزءًا من الحل المستقبلي، وذكر محمد دحلان أن المخاوف من فوز حماس سابقًا كانت إحدى الأسباب الرئيسية التي دفعت "إسرائيل" إلى عرقلة الانتخابات الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، مشيرًا إلى أنه سيكون من المستحيل حكم غزة دون موافقتها، مؤكدًا أن "حماس لن تختفي".
فيما نقلت الإيكونوميست "غضب" محمد دحلان من فكرة السماح للاجئين الفلسطينيين بالدخول إلى شبه جزيرة سيناء كوسيلة لتخفيف الأزمة في غزة، وتساءل باستنكار، "من سيتحمل هذه المسؤولية التاريخية ويتحمل لوم الشعوب العربية على مساعدة الإسرائيليين في تهجير الفلسطينيين؟"، وأشار إلى أن التهجير الجماعي للفلسطينيين إلى مصر من شأنه أن يخلق قضايا خطيرة تتعلق بالأمن القومي للحكومة في القاهرة، وهذه نقطة يتوافق فيها مع ما قاله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. ويعتقد محمد دحلان أن الدول العربية مثل مصر والأردن وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات يمكن أن تدعم حكومة انتقالية، وينبغي بعد ذلك أن تحظى هذه الدولة الفلسطينية بالاعتراف الدولي، بما في ذلك من جانب "إسرائيل".
ويتقاطع الطرح الذي قدمه دحلان وفياض، مع ما جاء به دينيس روس الذي كتب مقالًا في صحيفة نيويورك تايمز في السابع والعشرين من الشهر الماضي، قائلًا إنه "يقتضي بقاء إسرائيل في غزة بعد انتهاء القتال إلى أن تتمكن من تسليم السلطة إلى نوعٍ ما من الإدارة المؤقتة لمنع حدوث فراغ، والبدء بتنفيذ المهمة الشاقة المتمثلة في إعادة الإعمار". مضيفًا أنه ينبغي أن تُدار هذه الإدارة إلى حد كبير من تكنوقراط فلسطينيين، من غزة أو الضفة الغربية أو الشتات، تحت مظلة دولية تشمل دولاً عربية وغير عربية، "وستحتاج الولايات المتحدة إلى حشد هذه الجهود وتنظيمها، ربما باستخدام مظلةٍ ما مثل "الأمم المتحدة" أو "لجنة الاتصال المخصصة" للمانحين للشعب الفلسطيني".
وذكر كمثال دور المغرب ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين على توفير الشرطة، وليس القوات العسكرية، لضمان الأمن للإدارة المدنية الجديدة والمسؤولين عن إعادة الإعمار، مشيرًا إلى أن بإمكان المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر توفير الجزء الأكبر من التمويل اللازم لإعادة الإعمار.