30-يوليو-2018

قبل أذان الفجر بدقائق معدودة تكون نادية عصيدة "أم إبراهيم" قد حطت رحالها في أرضها "بئر غزال" لقطف ثمار التين، اعتادت ذلك من سنوات طويلة، حتى صارت توصف بـ"الفلاحة النشيطة" في قريتها تل جنوب نابلس بالضفة الغربية.

في تل أو "عاصمة التين" الفلسطيني، تنشغل "أم إبراهيم" كحال نساء القرية ورجالها هذه الأيام بموسم التين والصبر الذي يشكل ركيزة اقتصادية وتنموية للقرية، وهو أشبه بتقليد جماعي واجتماعي يميزها عن غيرها من القرى الفلسطينية.

موسم التين والصبر يشكل ركيزة اقتصادية وتنموية في "تل"، وهو أشبه بتقليد جماعي واجتماعي يميزها عن غيرها من القرى

ما أن تبزغ شمس الصباح حتى تكون "أم إبراهيم" التي ولجت عقدها السادس قد أتمت قطف ثمار التين، تتنقل السيدة بين من غصن لآخر فوق الشجرة مستفيدة من خبرة تمتد لثلاثة عقود في زراعة التين وحصاده، وترفض أن يتسلق أحد سواها أشجار التين فهي تقوم بذلك بأريحية.

تمارس السيدة "طريقة القطاف" بحرص شديد وتصفها بأنها أكثر صعوبة وتحتاج لمهارة عالية، سيما وأنها "تحافظ على الشكل الخارجي الجيد للثمار"، وكلما امتلأ الدلو تنزل أرضًا وتناوله لنجلها إبراهيم ليفرغه بتأني ويقوم بترتيبه وتنظيم شكله الخارجي، هذا جزء من مهمته التي يكملها بنقل المحصول باكرًا لوسط البلدة ليدرك "مزاد البيع" هناك.

من قريب، أنهى إبراهيم تعليمه الجامعي في تكنولوجيا الحاسوب، استطاعت والدته توفير أقساطه الجامعية وشقيقاته اللواتي تخرجن من كلية العلوم والصيدلة من عملها بالتين، ومن قريب شيدت منزله لتزويجه.

موسم مثمر

ساعتان فقط هو جل الوقت الذي بحوزة السيدة لتنهي قطف التين باكرًا، يساعدها أيضا زوجها خالد عصيدة وهو أستاذ متقاعد، توكل له مهمة قطف الصبر بعد التين، بينما تظل "أم إبراهيم" في الأرض لدهن التين (طلاؤه بالزيت)، وتقول إنها تنتظر شروق الشمس لتباشر عملية الدهن التي لا تصلح مع وقت الندى حيث الحبات والأوراق مبتلة.

بيد تمسك أحد الأغصان، وبالأخرى تدهن التين لتسرِّع إنضاجه، تترك الثمار الأمامية التي لم تنضج بعد، وتطلي الخلفية بواسطة القطن المبتل بالزيت النباتي. لا تملك "أم إبراهيم" هذه الأشجار، فهي تتضمنها من أصحابها مناصفة بكمية الإنتاج، وفي نهاية كل أسبوع تتقاسم وإياهم حصاد ما تجنيه.

هكذا يتم دهن التين بالزيت النباتي

تقول السيدة إن التين يدر عليها ربحًا جيدًا يُقدر بنحو سبعة آلاف دولار، تدخر جزءًا وتستثمر الآخر في شراء الأرض وزراعتها بأشجار التين، وتنفق على أسرتها المكونة من سبعة أفراد بينهم اثنان من ذوي الإعاقة، فراتب زوجها التقاعدي لا يكفي، وهي تعمل أيضًا في مواسم أخرى طوال العام، مثل الزراعات البعلية من الفقوس والبامية وغيرها، إضافة للبقوليات والقمح والزيتون.

ترد "أم إبراهيم" الشمس عن عينها وهي تحدثنا بينما تقطف حباتٍ من الصبر والتين قد نضجت، وتقول إنها تمكث لما بعد منتصف النهار في قطف التين ودهنه، ثم تعود لاحقًا لإكمال أعباء المنزل فتظهر كأنها في صراع مع الزمن، بدا ذلك واضحًا في إفطارها اليومي (التين) داخل الأرض "فوقت التين لا عجين" كما تقول.

مزاد القرية

وهناك في وسط البلدة حيث ينقل التين، يتحول المكان لسوق تجاري. ينشغل التاجر موسى رمضان بترتيب الصناديق لإطلاق شارة البدء للمزاد الذي يحضره التجار من مناطق شتى في الضفة الغربية سيما الجنوبية منها، يأخذ رمضان أجره مقابل بيع المحصول.

يُنقل التين إلى وسط قرية تل، ويتحول المكان لسوق تجاري ويُفتح مزادٌ يحضره التجار من مناطق شتى في الضفة

تُسمع حدة الأصوات ارتفاعًا وانخفاضًا، ليس في ذلك إزعاجًا فالقرية حينئذ تتحول لخلية نحل بين من يغدو لأرضه ومن يعود منها محملاً بأنواع شتى من التين التلاوي. تعرف القرية - على الأقل - أحد عشر نوعًا، هي الحماضي والحماري والخرطماني والعناقي والبياضي والموازي والخضاري والبلاطي والموازي والسوادي والعدلوني.

يُدرك موسى بخبرته التجارية التي تمتد لعشرين عامًا أفضل الأنواع وأجودها، ويقول إن الموسم الذي ينطلق بداية تموز/يوليو ويستمر لشهرين بنوعين هما الحماضي والحماري "وهي الأغلى وتطرح كميات قليلة وتدر ربحًا جيدًا على المزارعين" كما يقول.

تدرك "أم إبراهيم" ذلك، لذا تنشط خلال فترة عطاء هذين النوعين "فالأنواع الأخرى تثمر بكميات كبيرة ودفعة واحدة ويؤدي ذلك لانخفاض أسعارها".

يرى الأهالي في المزاد الذي يفتتحه موسى صباحًا فرصة لتحصيل أفضل الأسعار وابتياع التين كله، وما أن تدق عقارب الساعة الثامنة حتى ينفضّ الناس والتجار ويهمُ كلٌ بحصته من التين الذي ابتاعه لتسويقه بطريقته.

في السنوات القليلة الماضية تحوَّل شارع المتنزهات في مدينة نابلس إلى سوقٍ لبيع التين، يأتيه الباعة من كل حدب وصوب ويقصده المشترون، فيركنون مركباتهم جانبًا ويترجلون لشراء ما لذب وطاب منه، هناك أيضًا يكون موسى قد أعد بسطته وجهزها بشكل لافت وجذَّاب.

كميات كبيرة تُطرح من التين يوميًا في شارع المتنزهات وعلى موسى أن يسوَّق بضاعته بسرعة، لهذا فهو ينثر أبناءه للقيام بالمهمة، مثله يفعل التجار الآخرون، فالمكان وضيقه يُعدُ معضلتهم الأساسية، حتى أن بعضهم يتجاوز ما تلزمه به بلدية نابلس ليبتاع تينه عند أبواب المساجد وفي الطرقات العامة وسط المدينة.

عرش التين

تواجه تل انحسارًا كبيرًا في مساحات التين بفعل التمدد العمراني، وبالتالي تراجع المنتج، إضافة لمنع تسويق التين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وانتشار الخنازير البرية التي يطلقها الاحتلال، وزراعة إسرائيل لكميات كبيرة من التين. فمن 2400 دونم كانت تُزرع بالتين تراجعت المساحة لنحو 500 دونم فقط، تنتج نحو ستة أطنان يوميًا وتدر دخلاً يصل لنحو ثلاثين ألف شيكل يوميًا (نحو 8 آلاف دولار أميركي).

الخنازير البرية التي يُطلقها الاحتلال، ومنع تسويق التين داخل الأراضي المحتلة عام 48، يُهدد إنتاج التين في قرية تل

تشير تلك الكميات لرواج التين كمهنة أساس في القرية، وأن عملية "الدهن" ضاعفت المنتج وسهلت التحكم بإثماره، وهي فكرة دخيلة برأي البعض ومبتدعة من الأهالي برأي آخرين، وأن عمرها يتجاوز العقدين، "وهو ما جعل موسم التين من المحاصيل الأولى اقتصاديًا فلسطينيًا" وفق عرفات اشتية المهندس الزراعي وأحد المزارعين في تل.

ويضيف اشتية أن الدهن ليس له آثارًا جانبية كونه يتم بزيوت نباتية لا تصنف بأنها ضارة أو كيماوية، "بل تمنع الحشرات التي تتسبب بخماج الثمار كونها تغلق مسامات قاعدة الثمرة".

رغم ذلك تحاول تل النهوض بزراعتها الأساس (التين) وقد بدأت فعلاً باستصلاح أراض وزراعتها لتظل تتربع على عرش القرى والبلدات المنتجة للتين.