18-سبتمبر-2023
مهدي الأحمد، اتفاقية أوسلو

عاد مهدي الأحمد ضمن اتفاقية أوسلو، وكان مديرًا عامًا لداخلية جنين على مدار عشرين عامًا (الترا فلسطين)

ثلاثون عامًا مضت على إعلان اتفاق أوسلو، المبرم بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 1993، والذي كشف عن ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للفلسطينيين، والتي كانت مجدولة نظريًا لبضع سنوات، قبل أن تتوج التفاهمات النهائية اللاحقة بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب "إسرائيل"، كحل نهائي للقضية الفلسطينية، لم يتحقق حتى الآن، وانتهى إلى فشل ذريع.

شكل الاتفاق صدمة، رغم تقديمه كإنجاز من قبل منظمة التحرير، خاصة بعد اعتراف المنظمة بشرعية إسرائيل في 78% من مساحة فلسطين، والتنازل عن خطاب الاستعمار الضارب في للبلاد بأكملها، وإلغاء برنامج الدولة الواحدة، والانتقال إلى مفهوم الاحتلال العسكري المقتصر على الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلاجه بحل الدولتين.

في محاولة للاقتراب مجددًا من تداعيات 30 عامًا تحت واقع أوسلو، يحاور "ألترا فلسطين" مهدي الأحمد، والذي شغل منصب مدير عام داخلية جنين بين 1996 حتى 2014، وقبلها عضوية الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الخارج لنحو عقد من الزمان. تركز المقابلة على تجربة العمل الدبلوماسي ما قبل وبعد أوسلو، وعلى تقييم الأحمد لجدوى الحكم الذاتي الفلسطيني في أراض مطوقة منفصلة (باتت تعرف بمناطق ألف)، تحت أعين السلطات العسكرية الإسرائيلية.

شكل الاتفاق صدمة، رغم تقديمه كإنجاز من قبل منظمة التحرير، خاصة بعد اعتراف المنظمة بشرعية إسرائيل في 78% من مساحة فلسطين

  • دعنا نبدأ حوارنا هذا بتعريف شخصي مقتضب.

أنا مهدي نجيب مصطفى الأحمد، 67 عامًا. تقاعدت من السلطة الفلسطينية منذ سبع سنوات. ختمت حياتي المهنية كوكيل مساعد في وزارة الداخلية الفلسطينية في رام الله بين 2014-2016، وعملت قبلها مديرًا عاما لداخلية جنين بين 1996-2014. 

أنا من مواليد قرية رمانة قضاء جنين، عام 1956. درست المرحلة الابتدائية بمدينة جنين. نتيجة لعمل وطني ما قام به والدي، تم إبعادنا قسريًا كعائلة إلى الأردن عندما كنت تلميذًا، فأكملت المرحلة الإعدادية والثانوية في عمّان، ثم سافرت لدراسة العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة كييف بالاتحاد السوفيتي آنذاك.

كوني كنت منتميًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال تنظيم حركة فتح، تم تفريغي بالدائرة السياسية للمنظمة بين أعوام 1983-1996، وعملت في ثلاث سفارات بعد التخرج، دار السلام عاصمة تنزانيا، وفي سفارتنا في موسكو، ثم في سفارتنا في عمّان، حيث عملت في دائرة شؤون المفاوضات، وكان ذلك تزامنًا مع مؤتمر مدريد للسلام.

  • لماذا اخترت حركة فتح؟ وكيف انتهى بك الأمر بالعمل في الدائرة السياسية بمنظمة التحرير؟

شخصيًا، نشأت في عائلة سياسية، توزع أفرادها بين حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أساسًا، وكان والدي عضوًا مؤسسًا في أول مجلس وطني فلسطيني.

في فترة شبابي، كان الفكر الثوري الطاغي هو الماركسي اللينيني، وكانت اهتمامات الشبان والشابات آنذاك تتزايد لاستكشاف هذا الفكر، ومحاولة فهم النظرية الثورية. 

بالرغم من ميولي اليسارية، تولدت لدي قناعة آنذاك أنه في ظل وجود حركة تحرر وطني بمفهوم واسع وفضفاض كحركة فتح، فلا داعي للانتماء لغيرها. ولو كان بالإمكان، فينبغي الانتماء لمنظمة التحرير فقط، كونها الإطار الأكبر الذي يمكن أن تنطوي تحته كل التوجهات السياسية الفلسطينية، سواء كانت دينية أم يسارية ماركسية، طالما أن الهدف الأساس هو التحرير.

  • هل لك أن تحدثني عن عملك الدبلوماسي في المنظمة ما قبل أوسلو؟ وما أدبيات خطابكم السياسي الموجه لقادة وشعوب دول العالم آنذاك؟

حتى أواسط السبعينيات، تحديدًا حتى ما بعد حرب أكتوبر (1973)، كان لا جدال أن فلسطين التاريخية بأكملها هي بلادنا المحتلة، وبعد تحريرها، ننشئ عليها دولة علمانية، دولة مواطنة، دولة لكل سكانها بغض النظر عن الدين واللون والعرق. كان الطموح هو تحرير كافة سكان البلاد من المشروع الصهيوني، بمن فيهم اليهود، إذ أردنا تحريرهم من الفكرة العنصرية الصهيونية. هكذا كان البرنامج السياسي لحركة فتح، وهي رؤية علمية إنسانية تجابه البرنامج الصهيوني، والذي يتجسد بدولة إسرائيل، كدولة عنصرية لليهود فقط. 

واجهت إسرائيل هذا المشروع بعنف، وعملت عسكريًا على تصفية المنظمة، برعاية غربية، خاصة أمريكية. وجرى محاربة وجود المنظمة في الأردن، ولاحقًا في لبنان، حتى تطورت الأمور إلى اجتياح لبنان عام 1982.

getty

لم يكن طرح "دولة لكل مواطنيها" مقبولًا على الإطلاق، فهو خطير على المشروع الصهيوني. 

عندما خرجت المنظمة ببرنامج النقاط العشر أواسط السبعينيات، والذي أجاز إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي قطعة أرض تحرر من فلسطين، كانت البداية للموافقة على حل دولتين. وبقناعتي الشخصية، كان ذلك إجهاضًا لبرنامج "دولة كل مواطنيها".

لكن لأكون دقيقًا، كانت الرؤية هي إقامة سلطة على أي قطعة أرض محررة، واتخاذها كمنصة لاستكمال عملية التحرير، وتخليص كافة سكان البلاد من الصهيونية، بمن فيهم اليهود، كما أسلفت لك. قد لا يعني هذا بالضرورة القبول بحل الدولتين كحل أبدي.

حتى ما قبل أوسلو، كان هذا لسان حال الدبلوماسية الفلسطينية. ما فعله أوسلو كان مختلفًا تمامًا، إذ قدم "حل الدولتين" كحل نهائي لا رجعة عنه.

  • هل أستطيع القول أنك كنت تخاطب العالم بلسان برنامج النقاط العشر ما قبل أوسلو؟

كنت أعمل في سفارات منظمة التحرير، التابعة للدائرة السياسية، وكنا ملتزمين بخطوط سياسية معينة بالتأكيد، كأي منظمة أو مؤسسة. كان عملي يبدأ من التعريف البسيط بقضية فلسطين، وينتهي بالتحشيد الإعلامي، وربما المالي. 

مع بداية عملي، أستطيع القول إن خطابنا المطالب بالدولة الواحدة امتزج ببرنامج النقاط العشر، إذ كنا نوضح أننا على استعداد للموافقة على إقامة سلطة فلسطينية على أجزاء محررة من فلسطين. إن سؤلت حينها، فكنت سأجيب أنها رسالة سلام من منظمة التحرير للعالم، وأوضح أنها رؤية مرحلية لاستكمال التحرير. 

لاحقًا، وبعد مرحلة أوسلو، تحول الخطاب نحو حل الدولتين كحل نهائي.

  • حدثني عن دورك في دائرة شؤون المفاوضات خلال فترة محادثات مدريد.

كوني كنت ضمن كوادر سفارة المنظمة في الأردن، تسلمت مهامًا إدارية للوفد الفلسطيني المفاوض، والذي كان تحت المظلة الأردنية، لأنه في حينها، لم تكن منظمة التحرير معترف بها من قبل معظم دول العالم الغربي، فكنا نعمل تحت مظلة الوفد الحكومي الأردني. كان أعضاء المنظمة يصلون حصرًا من داخل الأرض المحتلة، وهذه إحدى المعايير بالمناسبة، وكنت أعمل على ترتيب تلك العملية إداريًا، ابتداءً من استقبالهم على الجسر، وترتيب الجلسات الداخلية في عمّان، وحتى سفرهم إلى المفاوضات.

  • هذا يعني أنك لم تنخرط بمحادثات مدريد بشكل مباشر، ولا حتى من موقعك في العاصمة عمّان.

بالطبع لا. كان محظورًا مشاركة أي عضو ما لم يكن قادمًا من الأرض المحتلة. عمليًا، كان المايسترو الحقيقي فيصل الحسيني، وبرئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي. 

لكن، عليك أن تعلم أن المفاوضات الحقيقية لم تكن في مدريد، بل كانت تجري في النرويج، والتي بدأت بشكل سري للغاية، مع أبو العلاء قريع ومجموعة من كوادر المنظمة، والذين كانوا يتفاوضون مع أكاديميين إسرائيليين، ثم مسؤولين إسرائيليين، حتى صارت الدائرة تكبر، ودخلت المنظمة وإسرائيل بعملية تفاوض نشيطة جدًا، إلى أن تم اتفاق أوسلو. 

بحسب معلوماتي، في بدايات المفاوضات السرية، لم يكن يعلم بها إلا ستة أشخاص من المنظمة، على رأسهم ياسر عرفات ومحمود عباس.

انتهت محادثات مدريد دون أن تتوصل لأي نتائج حقيقية أصلًا، وبعد أوسلو، لم يُعدّ أي مبرر عملي لاستمراها.

ككادر سفارة في عمّان، أو شخصيًا على الأقل، لم نكن نعلم عن ما يجري في النرويج أي شيء قط. ظل سريًا إلى حين إعلانه، ثم بداية تنفيذه عام 1994 بخطة غزة-أريحا أولًا.

getty

  • أفترض أنك انتميت لحركة فتح، فمنظمة التحرير، بناءً على مبادئ سياسية معينة آمنت بها وأردت أن تساهم بنشرها للعالم خلال عملك الدبلوماسي في المنظمة. كيف تقبلت الانقلاب والمفاجئ في المبادئ التحررية الفلسطينية، ولماذا فضلت مواصلة العمل بدلًا من الاحتجاج أو الانسحاب؟

يومها، كنت أشاهد شاشة التلفاز من البيت عند ساعات العصر. كان بثًا مباشرًا لتوقيع الاتفاق ما بين الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني خلال احتفال في حديقة البيت الأبيض.

سأخبرك بموقفي الشخصي. بكل صراحة، نتيجة لتكويني الشخصي والوطني في ذلك السن، لم أصدق ما كنت أراه. بدأت أغلق عيني، وأفتحها مجددًا.

"هل هذا حلم أم كذب؟ ما الذي أراه؟ أبو عمار يصافح رابين وشمعون بيريز؟ هل هذا معقول؟ هل هذا حقيقي؟" كنت أقول لنفسي. لكن حقيقة، بموجب إيماني العميق حينها أن ياسر عرفات هو "أبو الوطنية الفلسطينية"، كان ذلك بمثابة العزاء الأخير لي، إضافة لبند "الأرض مقابل السلام". قلت لنفسي دعنا نرى ما هو هذا الاتفاق.

 ثم أعاود القول في نفس اللحظة: هذا اتفاق أمني يعرينا من كل شيء. كيف توافق عليه قيادتنا؟ كنت مصدومًا جدًا خلال مشاهدة شاشة التلفاز، ولم أعرف ما أفعل. هل أشتم؟ أم أتقبل؟ كان اتفاقًا لا يمكن أن يوافق عليه شخص لديه إيمان بالمشروع الوطني. في نفس الوقت، كنت أقول لنفسي قد يكون للقيادة نظرة ما، هؤلاء أناس مناضلين ووطنيين ومن المستحيل أن يضروا بالقضية. كان لدي ارتباك، ورغبة كبيرة لفهم كيف حصل ذلك ولماذا.

  • هل الصدمة هي رد فعل عاطفي نتيجة لمشهد المصافحة؟ أم أنه يتعلق بمخرجات الاتفاق السياسية؟

ليس مجرد عاطفة. أحد أسباب الصدمة أن المخرجات لم تكن ما تربينا عليه. لم يكن ذلك ما تعلمناه من نفس القيادة سابقًا. القيادة نفسها التي انقلبت فجأة ووافقت ووقعت أن فلسطين مقتصرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، موصولتان بجسر للمرور، بأفضل الأحوال، إن تم الاتفاق. 

لم أكن مقتنعًا أن ذلك قابل للتطبيق في المراحل النهائية، بشكلٍ شخصي.

  • لم تجبني عن قرارك مواصلة العمل تحت إطار منظمة التحرير بدلًا من الانسحاب أو الاحتجاج. كيف تقبلت الاستمرار تحت أجندة سياسية جديدة ومختلفة؟

قد لا يكون بين المسألتين علاقة مباشرة. انظر، أؤمن أن "من يخرج من دائرة الفعل، لن يفعل شيء". هذه قاعدة أساسية بالنسبة لي. منظمة التحرير، وبالرغم من أوسلو، تبقى الممثل القانوني والبيت المعنوي للشعب الفلسطيني. رغم أنهم أضعفوها وهمشوها، أو خونوها أو مجدوها إن أردت، مهما حصل، تبقى هي المرجع.

كان لدي قناعة آنذاك أن منظمة التحرير لن تخرج عن الدور التي أنشئت من أجله. ذلك سبب دفعني إلّا أترك جسمًا كنت أنتمي له عضويًا، حتى على مستوى "لقمة عيشي"، كما يقال.

  • هل تشعر أن هذا تعلق عاطفي؟ أم علمي عقلاني؟ البعض يجادل أن منظمة التحرير الفلسطينية خرقت ميثاقها الوطني عندما وقعت اتفاق أوسلو، والذي تم تعديله بعد الخرق، وليس قبله.

الاثنان معًا. علمي وعاطفي. هذا هو الوجه الشرعي المعترف فيه عربيًا ودوليًا، بل حتى إسرائيليًا. إنه الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين.

عاطفيًا، ذلك هو البيت الذي تعلمت فيه كل شيء، وكرست كل وقتي لخدمته، ومنحني امتياز العمل لتحرير وطني، حتى لو بشكلٍ سلمي، حتى لو من خلال وجودي في مبنى سفارة.

قناعتي أنه لا يجب أن أتركه، من باب العلاقة العضوية الناشئة. لا يجب أن أساهم بإضعاف منظمة التحرير، سواء كفرد أو كفصيل.

هناك فصائل سياسية عدة تحتج بين حين وآخر وتجمد عضويتها، هذا خطأ. كما قلت لك، لا يجب أن نخرج من دائرة الفعل. في الساحة الفلسطينية، دائرة الفعل هي منظمة التحرير. كنت أتمنى لو بقيت تلك الفصائل داخل إطار المنظمة وعارضت من الداخل. كان "الدينمو" سيكون أفضل.

أما بالنسبة للميثاق، فهو نص بشري بالنهاية. هو ليس بالقرآن، ويمكن أن يتغير. هناك دائما ظروف سياسية معينة تفرض نفسها، ويجب أن تتأقلم معها. النصوص تتغير حسب الظرف.

getty

  • بعد قرارك إكمال الطريق تحت إطار المنظمة، هل أظهرت أي احتجاج ما أم التزمت التعليمات والخطاب الجديد، وهنا أقصد "حل الدولتين" أساسًا؟ 

حينها، كنا في مرحلة انتظار بداية التنفيذ، وهنا أقصد عودة عدد معين من كادر المنظمة، على الصعيد العام السياسي، والعودة للبلاد على المستوى الشخصي أيضًا.

بدأنا نتحدث بالخطاب الجديد. شيء طبيعي. قد تمارس مهام ووظائف معينة مخالفة لكل المنطلقات التي كانت قبل تلك المرحلة.

إن أردنا التحدث عن سلبيات أوسلو، فلن تكفينا مجلدات. تبين لنا حينها أن هناك وجهة نظر سياسية معينة دفعت القيادة أن توافق على أوسلو، أولها إنقاذ منظمة التحرير من الاندثار، هذه مجرد وجهة نظر. ارتأت القيادة الفلسطينية حينها أنها إن لم تنقذ منظمة التحرير، فستضيع القضية الفلسطينية برمتها. هل هذه رؤية صائبة؟ هذا سيثبته التاريخ، والمستقبل.

  • حدثني عن عودتك إلى فلسطين، كـ "عائد" ما بعد أوسلو، كما يشار إلى هذا الفعل.

قمت بتعبئة استمارة في سفارة المنظمة بعمّان، وكانت الاستمارة تحمل رقمًا، صار رقم هويتي لاحقًا. بعدها، تم إشعاري بالسفر إلى "الجسر". دخلت مكتب مخابرات إسرائيلي عند الحدود، تلقيت أسئلة تقليدية، ثم أكملت طريقي إلى رام الله. نمت ليلة أولى هناك عند صديق لي، وفي اليوم التالي توجهت إلى جنين.

كان يومًا صعبًا على الاستيعاب. هل أنا حقًا في بلدي؟ أم هذه ليست بلدي؟ كانت أحاسيس غريبة عجيبة. خرجت قسرًا كطفل صغير وعدت وعمري 39 عامًا. لم أكن نافرًا، بل كان لدي الحماس لـ "مغامرة حلوة".

كتبت لمكتب الرئيس وشرحت فيه حالي، واقترحت تعييني في الموقع الفلاني، وعليه تمت الموافقة. أصدرت هويتي الشخصية، وصرت مديرًا عاما لداخلية جنين عام 1996.

  • حدثني عن انطباعاتك الأولى عن أوسلو على الأرض، وبدايات تجربة ما يعرف بالحكم الذاتي.

كنت واعيًا أنني لن أرجع إلى حديقة غناء. سأعود وأتحمل مسؤولية مجتمع عانى لسنوات، وسأعمل في وطن فيه جبال من المشاكل.

لكن بصراحة، تصورت أن وضع السلطة الفلسطينية أسوأ مما كان على الواقع. في الحقيقة، لاحظت وجود بعض الصلاحيات، خاصة في فترة البدايات. كان إن مر الإسرائيلي بأطراف مدينة جنين يطلب إذنًا، وكان ينبغي أن ترافقه دورية مشتركة حين تنقله.

السنين الأولى لأوسلو، حتى ما قبل الانتفاضة، بدت واعدة. الصلاحيات كانت أكبر مقارنة باليوم. كان هناك تقبل شعبي للسلطة، إذ كان المجتمع مرهقًا ويريد التخلص من حالة الفوضى التي لم أعشها بنفسي، بل سمعت عنها. رغب السكان بالخلاص من الحكم العسكري المباشر أيضًا، وبدأت السلطة الفلسطينية ببناء مؤسساتها.

لكن دعني أقول هنا إن المؤسسات لم تكن تبنى على أساس الصواب والخطأ، بل كانت المسألة برمتها مبرمجة. لم تبنِ الأشياء كما يحصل في الدول العصرية. بالنهاية، تذكر أن منظمة التحرير المنهكة المضطربة عليها أن تنشئ مؤسسات، ينبغي نظريًا أن تكون مؤسسات الدولة المستقبلية.

لم تكن الأمور نموذجية، إلا أنه كان هناك حدث مثير للاهتمام.

كان هناك تفاعل كبير من الفعاليات الاجتماعية والوطنية الفلسطينية، وبدأت الجهات الأكاديمية والمدنية الأخرى، كالبلديات، بل وحتى الأفراد، تقدم يد العون. كان بعض السكان يعرضون بيوتهم لاستعمالها من قبل الشرطة الفلسطينية، وآخرون يعرضون التبرع بمركبات. 

لاحقًا، بدأت تتدفق أموال المساعدات الغربية. بدأ تعبيد الطرق ومد خطوط الكهرباء. عندما عدت، لم يكن في قريتي، رمانة، أي خطوط كهرباء. أذكر أيضًا أن قرى شرق جنين لم يكن بها حتى شوارع ترابية تصلح للمركبات. أصبحت المدينة وقراها كورشة بناء، وتضاعف عدد المدارس خلال فترة قصيرة، وعبدت مئات الكيلومترات من الطرق. كان كل ذلك بأموال المساعدات بشكل أساسي.

بالتأكيد أن كل ذلك لم يكن من أولويات الحاكم العسكري الإسرائيلي ما قبل السلطة، والذي لن يكترث كثيرًا بملف خدمات الفلسطينيين. 

مهدي الأحمد: السنين الأولى لأوسلو، حتى ما قبل الانتفاضة، بدت واعدة. الصلاحيات كانت أكبر مقارنة باليوم

  • كيف فهمت الدور الوظيفي للسلطة حينها؟ ألم ترّ من الداخلية الفلسطينية جسمًا يقدم الخدمات للسكان الفلسطينيين في مناطق ألف بالنيابة عن القيادة العسكرية الإسرائيلية، سواء بنية أم لا؟

انظر، أوسلو ليست اتفاق سلام نهائي. هي اتفاق على كيفية وشكل اتفاقنا لاحقًا، والذي كان يفترض أن يستمر مدة خمس سنوات فقط.

كانت المسؤولية الكاملة فيما يتعلق ببيانات السكان المدنية، وحتى ملف الحركة، بيد الإسرائيليين. كانوا هم المشرفين الحقيقيين، ولا يزالون. لكن على الأقل، عملية شرعنة المواطن من ولادته حتى وفاته، ابتداءً من إصدار شهادة ميلاد حتى شهادة الوفاة، لم يُعدّ الفلسطيني يرى فيها جندي إسرائيلي. صارت الخدمة تقدم عبر موظف فلسطيني، وأزيل شعار وزارة الأمن الإسرائيلية واستبدل بشعار السلطة الفلسطينية، ولو بالاسم. صحيح أن الخانات تحوي اللغة العبرية، لكنها خطوة أولى. هذه المزايا، رغم بساطتها، كنا نراها كبدايات واعدة.

  • لكن مهلًا، دعنا نوضح للقارئ من هو المصدر الحقيقي لتلك الوثائق، حتى يومنا هذا. أليست هي السلطة العسكرية الإسرائيلية، الحاكم الحقيقي للضفة الغربية؟ ألمس أن فلسطينيين كثر يعيشون وهم "دولة" ويجهلون أن بطاقة الهوية، وحتى جواز سفر السلطة الفلسطينية، ينبغي أن تصدره السلطات الإسرائيلية، ليكون فعالًا. 

لا أسميه إصدارًا. ينبغي علينا أن نسلم كل تلك البيانات للسلطات الإسرائيلية. كما أسلفت، بحسب اتفاق أوسلو، تسيطر إسرائيل على البيانات المدنية للسكان، وعلى تنقلهم، حتى اليوم. فأي بطاقة هوية أو جواز سفر لا يسجل لديهم، فهو مجرد ورقة. 

الهوية التالفة مثلًا، أو المفقودة، يمكنك أن تستبدلها في نفس اللحظة من مكاتب السلطة. أما تعديل بيانات الهوية فيستغرق وقتًا لحتمية موافقة السلطات الإسرائيلية على البيانات الجديدة.

في كثير من الأحيان، هناك "موافقة أو عدم موافقة" من السلطات الإسرائيلية. كنا نواجه هذه المسألة كثيرًا في مسألة تسجيل المواليد القادمين من الخارج. بحسب الأنظمة الإسرائيلية، ينبغي أن يتم تسجيل المولود خلال فترة معينة. إن تم تجاوز تلك الفترة، تفقد السلطة الفلسطينية القدرة على منح هوية. الداخلية الفلسطينية تعمل وفق قيود. 

بالطبع، يحافظ الإسرائيلي على سيطرة دائمة على السكان. قد ينطبق ما نقول على كل شيء تقريبا، كرخص القيادة والمركبات وغيرها.

getty

  • هل كنت مسرورًا بعملك اليومي؟ هل تحققت لديك القناعة الكاملة بصواب دورك داخل منظومة الحكم الذاتي المحدودة؟ 

أخشى أننا كنا ننتظر شيئًا لن يأتي. أخشى أنها دائرة مغلقة صممت لنا، وقد لا نتمكن من الخروج منها. رغم ذلك، كنت أتمسك ببصيص بسيط من الأمل، كنت أقول إن التزم الطرف الآخر، وإن أحسنا التصرف، ربما نصنع إنجازًا ما، حتى لو بدأ بتحسين نوعية حياة الناس مرحليًا، ثم الحركة بحرية أكثر.

لكن بقناعتي، بيت الإسرائيليون أسوأ فخ لنا، لعدم إنجاح التجربة، وهو استمرار الاستيطان. وهذه أبرز عيوب أوسلو. لم يكن هناك نص واضح قاطع يمنع تمدد الاستيطان. طيب إن أردت أن تؤسس دولة لاحقا، كيف تؤجل نقاش أبرز المقومات الأساسية لإقامة الدولة، وهي الأرض؟

أذكر عندما كنت أتنقل بين رام الله وجنين، وأرى المستوطنات على قمم التلال، كنت أتسائل ما الذي سيخرج هؤلاء من مكانهم. كنت أعتقد أن وجودهم سيبقى دائمًا والاتفاقية برمتها مسألة مؤقتة لن تنجح. مع ذلك، قلت لنفسي "دعنا نكون جزءًا من هذا التجاوز"، على أمل الوصول لشيء ما.

  • هل تغيرت الأمور مع الانتفاضة الثانية؟ هل باتت الأمور أوضح؟

بداية، أصبح عملنا أصعب بكثير. بين 2000-2005، كان عملنا برمته أشبه بالمجازفة الكبيرة. حينها، كان إصدار بعض المعاملات يتأخر كثيرًا، كونها كانت تطبع في غزة، لعدم القدرة على السفر ونقل البريد من هناك. كنا أحيانًا نرسل طلبات جواز السفر في حقيبة سياسي أو عضو تشريعي متجه إلى غزة، كون جوازات السفر كانت تطبع في غزة.

في تلك الفترة، لم يكن دوام المؤسسات منتظمًا، خاصة بعد قصف مبان كثيرة تابعة للسلطة الفلسطينية، على رأسها الأمنية.

  • هل اعتقدت حينها أنها نهاية تجربة السلطة الفلسطينية؟

واصلنا العمل رغم الظروف. كنا نعمل في غرفة التجارة، هنا وهناك. كنت أتوقع شروطًا جديدة ووضعًا جديدًا كليًا. 

ما أريد قوله إن أوسلو أكبر منا وأكبر من إسرائيل. هذا حل دولي. صحيح أن إسرائيل تأسست بعامل ذاتي صهيوني، لكنه جاء بموجب قرارات ودعم دولي.

رغم كل ما حدث، رغم كل العراك الحاصل، لم تجرؤ إسرائيل أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى المجتمع الدولي، على إلغاءه. هذه هي الرؤية الدائمة، كما يبدو. مجرد حكم ذاتي.

بالنسبة للمجتمع الدولي، إن نجح الفلسطينيون في الحصول على دولة، فيلكن، لم لا. أما إن لم يحصل، فحكم ذاتي للسكان. هذا جوهر الصراع. هذا جوهر أوسلو.

  • وكيف آلت الأمور ما بعد نهايات الانتفاضة الثانية، وفي عهد محمود عباس، رئيس السلطة الجديد حينها؟

أثبتت القيادة الجديدة للغرب أنها الراعي الحقيقي لأوسلو، وأنها ستكمل المسير بهذا النهج، ولن تخرج عنه. أكدت حينها أنها ستواصل بناء مؤسسات الدولة المستقبلية، بطرق سلمية، بدون حرب ولا عراك. 

تندلع بعض التوترات أحيانًا بين السلطة وإسرائيل، بسبب ما يعتبره الإسرائيليون تحريضًا على العنف من السلطة، أو بسبب توقف المفاوضات، لكنها تصل إلى حد الضغط المالي وتجفيف المنابع المالية إلى حد كبير كورقة ضغط لفترة مؤقتة.

getty

  • ألا تبدو هذه المرحلة، والمستمرة إلى يومنا، كتأبيد لواقع أوسلو؟

هناك مثل من التراث الفلسطيني يقول: "واوي بلع منجل". هذا يعني إن حاول إخراجه سيمزق حلقه، وفي نفس الوقت، لن يستطيع ابتلاعه.

لم نعد قادرين على التقدم للأمام، أو العودة إلى الخلف. هذا فخ كبير.

يضعنا الجانب الإسرائيلي، وهو الجانب الأقوى، دون إملاءات مباشرة، في متاهة إجبارية نسير بها، شئنا أم أبينا. هذا ما حصل معنا. 

إسرائيل ترانا كلنا كسكان موجودون في الوقت والمكان الخطأ. تأكد أن إسرائيل ومنذ بدايتها لا تقر لأي ساكن بأي حق بشبر من البلاد، بل يرونها كبلاد لليهود فقط. فإن أراد الفلسطينيون الرحيل فليرحلوا، وإن لم يرغبوا، فليديروا سكانهم إدارة محدودة فقط، أي سلطة تدير السكان ومتطلباتهم واحتياجاتهم الأساسية، بدون أي طموحات سياسية.

  • أليس هناك مصلحة إسرائيلية بوجود جسم إداري فلسطيني في مناطق "أ"؟

بالتأكيد، لهم مصلحة. هذه التركيبة ترفع عنهم عبئًا، وتغنيهم عن العمل المباشر بين السكان الفلسطينيين. لكن في نفس الوقت، قد يكون فيها مصلحة جزئية لنا. قبل قليل كنا نتحدث عن استقبال الخدمات من موظف فلسطيني بدلًا عن جندي إسرائيلي. 

هدفهم تحميلنا ملف إدارة شؤون السكان واحتياجاتهم اليومية، وهدفنا كنا نراه كتسهيل لحياة السكان.

  • لو خيرت مرة أخرى، هل ستدخل ضمن منظومة الحكم الذاتي الفلسطيني؟

قلت لك، وكي أكون منصفًا، في السنوات الأولى، كانت الأمور واعدة، لكنها لم تسر كما كنا نطمح. المهم الآن أن تحاول تحسين ما هو موجود حاليًا، وأن ترسخ قواعد لمستقبل أفضل.

لم تتحقق الأهداف التي في سبيلها خضنا التجربة، ومن يقول غير هذا يكذب. المهم الآن دفع القضية الفلسطينية نحو الحل العادل مجددًا.

بالنسبة للإسرائيلي، ما دام هناك فلسطيني واحد يتنفس، فشرعيتهم مهددة. المشكلة أننا نحن لا نعي هذا الكلام. لا نعرف ما معنى شرعيتنا وماذا أنجزنا.

  • أحيانًا، ولتوجيه التهديد الأكبر للحكومة الإسرائيلية، كان محمود عباس يهدد بحل السلطة الفلسطينية. هل ترى ذلك واقعيًا؟

قد يكون لحل السلطة فوائد سياسية ووطنية. قد تستيقظ الأطراف الفلسطينية التي تتقاتل على الغنيمة، وهي السلطة. أنا أؤمن أن الصراع على السلطة هو ما خلق الانقسام في الشارع الفلسطيني، ومن يقول غير ذلك يكذب. كلهم يتقاتلون على السلطة، قبل أن تكون هناك سلطة حقيقية حتى. عموما، سلطة ومقاومة واحتلال، لا يلتقون. سلطة ومقاومة، لا تصح، يا سلطة يا مقاومة.

سلطة مع احتلال، أيضا لا تصح، ستبقى السلطة محدودة المهام وضعيفة.

  • إذًا ما الحل؟ كيف نخرج من أوسلو؟

لا شك أننا نعيش بمأزق كبير.المسألة تحتاج وقفة جدية ومسؤولية ومراجعة حقيقية، وأن تجلس كل الأطراف وتناقش الأمر بشكل معمق، وكيف نرتب الوضع الفلسطيني الداخلي مرة أخرى، بحيث نقرب يوم التحرير.

  • هل سنربك المشروع الصهيوني إن ألقينا السكان في وجه السلطات العسكرية الإسرائيلية مجددًا؟ كثيرون يجادلون أن وجود سلطة حكم ذاتي فلسطينية تنقذ المشروع الصهيوني وذلك بإقصاء السكان غير المرغوب بهم من جسم البلاد الأساسي، وضمان الأغلبية اليهودية.

إن تنحى محمود عباس أو أي قائد آخر، تأكد أن هناك الآلاف ممن لديهم الاستعداد لكي يحلوا مكانه، هذه هي المعضلة. لا أقول مئات، بل آلاف. 

أما حاليًا، فهناك من يرغب باستدامة الوضع القائم، كونهم نتيجة للاستفادة منه، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة. مع الأسف، تستمر مهزلة "عطوفة وفخامة ودولة"، كله كذب بكذب. هناك كثر ممن راكموا منافع معينة لن يتنازلوا عنها.

أبو مازن لن يذهب بهذا الاتجاه، نظرًا للظروف المحيطة التي أشير إليها.

تذكر أن هناك محاذير عديدة، بعضها اجتماعية. اسمحلي أن أعالج سؤالك بسؤال: هل من الأفضل أن نعيش مع مركز شرطة أم بدونه؟ ألن تأكل الناس بعضها؟ هل من الأفضل أن نعيش بدون نظام قضائي، وإن كان مترهلًا؟

واهم من يظن أنه في حال حل السلطة سيأتي الحاكم العسكري ليسيطر على شؤون الفلسطينيين الخدماتية. بالعكس، هذا آخر سيناريو يريد الإسرائيلي تخيله. بالتالي، قد نتعرض لحالة فوضى داخلية غير مفيدة.

الموضوع هو إتقان اللعبة بشكل سليم. بحيث تحافظ على المكتسبات التي تحققت وتطورها، وتسعى لتحقيق ظرف ملائم لنقل فلسطين إلى حل تحرري، سواء بحل دولتين، كنقلة مرحلية، أو حل دولة واحدة مباشرة.

  • أرى أن معيارك في الإجابة هو سكان مناطق "أ" فقط. ماذا بشأن باقي سكان فلسطين، وملايين اللاجئين في مخيمات الشتات؟

هنا ينبع دور قيادة ذكية لديها رؤية لمزج كل ما تذكر. الوضع الفلسطيني من أعقد الأوضاع السياسية لشعب في بتاريخ البشرية.

إن لم نحصل على قيادة تحمل على عاتقها كل هذه المسائل التي تشير لها، سيبقى وضعنا صعبًا، وسيبقى الحل العادل الشامل لكل أطياف الشعب الفلسطيني مهددًا بالإجهاض.

بالتأكيد، لا يجب أن تكون القضية الفلسطينية حكرًا على حلّ في الضفة الغربية وغزة فقط. إن لم يكن هناك حل لكل الإشكالات العالقة منذ ما قبل 1948 حتى اليوم، سيبقى حلًا قاصرًا.

  • كيف ترد على بعض المنتقدين، والذين يتهمون المنظمة وتيار السلطة بتشويه أدبيات التحرر الفلسطيني، ابتداءً من نفي صفة الاحتلال عن أراضي عام 1948، والانتقال من مفهوم الاستعمار الكلاسيكي إلى الاحتلال العسكري؟

لشرح قناعتي الشخصية، سأردد جملة لكاتب إسرائيلي مفادها أن "في فلسطين التاريخية، لا مكان لدولتين، بل لواحدة".

بالتأكيد، أفضل أدبيات فتح الأصلية، والتي طرحت دولة كاملة لكافة مواطنيها، وهذه رؤية معقولة، للشعبين، بمن فيهم الفلسطينيون.

الحركة الصهيونية تروج للموضوع كزوال إسرائيل، والعالم يراه كزوال إسرائيل، لكنها ليست النقطة. هذه الأرض يجب أن تضم كافة السكان الموجودين في البلاد، وجميعهم يجب أن يكونوا مواطنين. الحل النموذجي، إقامة دولة لكل مواطنيها، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.

بالتأكيد، هناك خوف غربي من هذا الموقف. الغرب قد يوافق على حل دولتين، لكن لا على حل دولة واحدة، على الأقل الآن. يمكن بالمستقبل أن تتبدل هذه الرؤية حسب مصالحهم.

  • كيف تنظر لتدفق أموال المساعدات الغربية للسلطة؟ هل هي استدامة لأوسلو؟

نعم. هم معنيون أن يستمر هذا الوضع طالما وفر لهم الراحة من "وجع الراس". هذه هي الوصفة لوأد صراع قد ينفجر، بالنسبة لهم. اشتعال الصراع قد يكلفهم أثمانًا باهظة لا يريدونها. هذا وضع يوفر السكون؟ إذًا، فلنحافظ عليه في المنطقة.

خلال عملي، كنت أقول "لن نرفس الأموال"، بل على الأقل، فلنحسن استعمالها ونطور أنفسنا. المانح الغربي لا يطلب منك التنازل والتوقيع عند تسليم المنحة، ليس هكذا تجري الأمور.

  • هل ترى أي تطور داخلي في جسم السلطة حاليًا؟ هل هناك أي بوادر للانتقال من هذا الوضع المؤقت، والذي عاش لـ30 عامًا، إلى مرحلة تقربنا من حل نهائي عادل؟

ألخص الوضع بجملة: "سيري فعين الله ترعاكي". لا أعتقد أن أحدًا يسأل نفسه الأسئلة هذه، فالأمور تتجه تلقائيًا إلى الاستدامة. ما يحصل أيضًا أن هناك زمرة من المنتفعين يسيطرون على الوضع، ولديهم تحالفات مع رأس المال، بل ومع فعاليات أخرى، مدنية أو غير مدنية، سمها ما شئت، وجميعهم يعملون على إطالة الوضع القائم.

لكن هذا ضد منطق الأشياء، كن متأكدًا. مهما ارتفع مستوى الحياة في رام الله مثلًا، رام الله ليست كل فلسطين. المنتفعون هناك، أو حتى في جنين ونابلس، هم ليسوا كل فلسطين.

فلسطين هي 14 مليون فلسطيني، وهؤلاء كلهم لهم حق هنا، ولهم حق بأن يقرروا مصيرهم.

getty

  • على المستوى الشعبي، ظهرت حراكات عديدة تطالب بإصلاحات في السلطة الفلسطينية، وأخرى طالبت بإعادة هيكلة المنظمة، وجميع تلك الحراكات تقريبا حوربت من الأجهزة الأمنية الفلسطينية بطرق بوليسية، بحسب مراقبين. ما تفسيرك لذلك؟

مرة أخرى، إن مسألة تأبيد الوضع القائم غير ممكنة، لأنه وضع غير صائب. 

المنتفعون من الوضع الراهن هم نسبة لا تذكر من جسم الشعب الفلسطيني. هؤلاء خدمتهم الظروف المرحلية، وصاروا "معالي وعطوفة"، لكن كل هذا لن يدوم.

الوضع القائم لا يقدم الفلسطيني، بل بالعكس، يؤخره.

لقد شاخ جسم منظمة التحرير، لكن لن تجد الفلسطيني، يختلف على أنها الوطن المعنوي، والعنوان، سواء فلسطينيي شتات أو داخل البلاد. طالما اكتسب هذا الجسم الشرعية، ينبغي أن نحافظ عليه حتى الحل الدائم. هذا الجسم هو الأداة لاستكمال عملية التحرير.

الحراكات الشعبية التي تذكرها قد تصطدم مع مصالح شخصيات معنية باستمرار شيخوخة المنظمة، فبعضهم غير معني بمنظمة تحرير قوية ولا متنفذة، لأن ذلك يتضارب مع مصالحهم.

  • بصراحة، هل تندم على تسيير شؤون محافظة جنين المدنية لمدة 20 عامًا، بغض النظر عن مدى حسن نيتك، طالما أنها -ومن المنظور الإسرائيلي على الأقل- قد تكون مصلحة للمشروع الاستعماري الصهيوني؟

بداية، كخصلة شخصية، حتى لو ندمت على شيء ما، لا أحب أن أندم. هذه تجربة وخضتها. لا أتفق أيضا أن الأمور وصلت لمسألة الندامة، مسيرتي الشخصية ينبغي أن تكون مدعاة فخر.

إن خرجت التجربة عن الخط المرسوم لها، لا يعني أني سأندم. منذ طفولتي، نويت أن أمشي هذا المسار للنهاية.

في لحظات ضعف معنية، قد تندم لماذا أنجبت ابنك. قد يمر الإنسان بلحظات ضعف أو مراجعة، حتى على مستوى شخصي، فلو عملت بمجال آخر، لكنت بوضع أفضل. كفلسطيني، ناداني واجبي للعمل والمساهمة، ولبيت. لم أوافق على كل شيء؟ لا حول ولا، لكن لا أندم.

وبالمناسبة، أقول دائمًا أن المشكلة ليست فقط باتفاق أوسلو، بل بالثقافات التي أفرزها، ثقافات عجيبة غريبة.

من البداية، منذ لحظة سلام عرفات برابين، هذا كان محرمًا. كان من المحرم العمل في المستوطنات الإسرائيلية. اليوم، صار مطلبًا. زادت ثقافة الخلاص الفردي، فالمهم أن "أدبر أموري"، بغض النظر عن الوضع العام. لا استجابة لنداءات الشأن العام، والتحرير، والمقاومة باتت فردية. هذه كلها إفرازات اتفاق أوسلو. 

مهدي الأحمد: واهم من يظن أنه في حال حل السلطة سيأتي الحاكم العسكري ليسيطر على شؤون الفلسطينيين الخدماتية. بالعكس، هذا آخر سيناريو يريد الإسرائيلي تخيله

  • دعنا نختم حوارنا بسؤال مغلق، بنعم أو لا. هل تعتقد أن 30 سنة من أوسلو جلبت دمارًا أكثر من نفع للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني؟

السلطة بحد ذاتها قد لا تكون فكرة سيئة، المهم ما الفكرة السياسية ورائها؟ وما الدور الوظيفي لها؟ هل هي نافعة؟ أم أنها مضرة وتخدم الاحتلال؟ هذا هو السؤال.

إن تم إصلاح هذا الجسم، وكان نافعا، فلنبقها، إن لم يحدث، فلا داعٍ لبقائها.

  • من فضلك، تركت لك أسئلة مفتوحة عديدة. دعنا نجب جوابًا قصيرًا على هذا السؤال المغلق. هل جلبت 30 عامًا من أوسلو دمارًا أكثر، أم نفعًا أكثر؟

بالرغم أن هذا ليس منطقي في الإجابات، لكن سأجيبك. لقد كان ضررها أكبر، وربما كانت الأمور أفضل لو لم تكن قط.

  • حررت المقابلة بتصرف بسيط لتسهيل عرض النص.