الذاكرة حية لا تموت، فنستعيد بعض المشاهد ذهنيًا أو عندما يتشابه حدث بالماضي مع الحاضر حتى لو مر على الأول أكثر من 20 عامًا. هكذا مخيم جنين أو "عش الدبابير" يعيد بناء الذاكرة وتنتقل من جيل لآخر، كذكرى الاجتياح في شهر نيسان بالعام 2002، ليعاد المشهد مرة ثانية فجر الإثنين (الثالث من تموز 2023 ولغاية مساء الثلاثاء الرابع من الشهر ذاته) فيصبح هذا الجيل معايشًا للأحداث وفاعلاً في نقل الذاكرة وليس مفعولاً به.
"صار فينا مثل التغريبة الفلسطينية واحنا حاملين أغراضنا ونعيط ومهجرين. ولادنا صغار ما بيعرفوا شو قصف ولا بيعرفوا شو جيش. الأمم المتحدة الي برا وينها عنا وين المسؤولين عنا. قعدنا من غير مي ومن دون كهرباء، فجروا التنكات"
نزح قرابة أربعة آلاف فلسطيني من المخيم (عدد سكانه 14 ألف فلسطيني) بإجبار من قوات الاحتلال إلى المدينة والقرى، الذين تكاتفوا لنقل أهالي المخيم إلى أماكن آمنة ليعودوا إلى منازلهم بعد انتهاء الحملة العسكرية الإسرائيلية على المدينة ومخيمها.
نوثق في هذه المقالة روايات شفوية مع الأهالي حول ما جرى في المخيم بدءًا من فجر الإثنين وكيف خرجوا منه، وعند عودتهم إليه كما شاهدنا البعض منهم صباح الأربعاء، الخامس من تموز الجاري.
تروي الشاهدة ميسون حسين: "احنا من مخيم جنين من حارة الحواشين، كنا بأمان الله قاعدين والساعة وحدة بالليل ما سمعنا غير هالصواريخ بتنزل جنبنا، ولادي يلي كان نايم ومنهم صاحيين صاروا يعيطوا.. قلتلهم هذه صواريخ صاروا ينزلوا شكلهم اجتاحوا المخيم، تخافوش، ضلينا قاعدين بالبيت للساعة 2:30 بالليل متحملناش الوضع، الولاد صاروا يعيطوا وما في عندي كهربا. جارنا نادى علي وبيحكيلي جيبي ولادك وتعالي عنا. توجهت انا وولادي اشي لابس واشي مش لابس، لبست هليانس (زي الصلاة) ورحت عند جيرانا، ما وصلنا عندهم إلا القصف صار عندهم على الدار صاروا الشبابيك ينزلن، والأبواب تتطاير علينا، الأولاد يعيطوا بدناش نموت بدناش نموت.
وتضيف: "عند المغرب فاتوا الجيش زي الهمجية وقالوا لنا "شيكت" "شيكت" ويصيحوا علينا. بنتي الكبيرة قلبها نبضه سريع وصفرنت (فقدت الوعي) من الوضع، حكتلهم طلعونا احنا بدنا نطلع ولادي صغار، حكالي انت "شيكت" وابني ريان يلطم يما بديش أموت، والصغيرة بحضني بتعيط، وهمي ماسكين الشباب بدهم يطلعوهم برا. الست صاحبة البيت صارت تصيح وتقلهم بديش تاخدوه كدرع كانوا بدهم ياخدوه كدرع جوزها قاموا اخدوه وطلعوا فيه لجوزها واخدوا نسيبها وابنها، بعدين ما شفناهم ضاربين صوتية باب الدار صرنا نصرخ شو يلي عملوه بالدار معرفناش لانه كل الدار صارت هيك زي الغبرة وبطل يعرف الواحد يشوف الثاني. من وقتها قلنا بدنا نطلع صارت الساعة 9 بالليل قلنا بدنا نطلع أخدنا ولادنا اشي حافي واشي مش حافي، الله يعلم فينا كيف طلعنا من المخيم ومن دورنا زي المهجرين، طلعنا بالشوارع جينا على مستشفى جنين الحكومي ومن مستشفى جنين الحكومي قاموا أخدونا ناس بيتونا عندهم الليلة، والصبح صبحنا طالعين ولاد حلال حكولي روحي على فندق السينما هناك في مأوى إلكم جيت وجبت ولادي، واليوم (الثلاثاء 4 تموز 2023) وصلت الفندق".
صار فينا مثل التغريبة الفلسطينية واحنا حاملين أغراضنا ونعيط ومهجرين. ولادنا صغار ما بيعرفوا شو قصف ولا بيعرفوا شو جيش. الأمم المتحدة الي برا وينها عنا وين المسؤولين عنا. قعدنا من غير مي ومن دون كهرباء، فجروا التنكات.
بدأ أهالي المخيم بالتوافد إلى فندق السينما -وسط المدينة- في منتصف ليلة الثلاثاء (الرابع من تموز)، حيث تواجد فيه قرابة الـ200 شخص من أهالي المخيم، أي نحو 34 عائلة، كما قال مدير الفندق ربيع السعدي.
خارج الفندق كانت المواجهات تتحضر عند دوار السينما يوم الثلاثاء (الرابع من تموز)، والوصول إلى مستشفى جنين الحكومي كان في غاية الصعوبة، والأخبار من المخيم تتوالى عن حارة الدمج وغيرها. لم أشهد مدينة جنين بهذه الصورة من قبل، كنت أنا وغيري مثلهم نعيد تذكر الأحداث أو نربطها بما حصل بالانتفاضة الثانية أو بما سمعناه.
وفي فندق السينما أيضًا، قابلت "أم ضياء" من مخيم جنين، فتقول: يلي صار حاليًا أصعب من اجتياح 2002 من ناحية الصواريخ لانهم ما ضربوا صواريخ بهذه الطريقة، صحيح إنه خربوا الدور الي كان عايشين فيها وضربوا علينا أشياء، لكن هاي أصعب علينا، صاروا يضربوا صواريخ وخلونا نخلي الدور، وأخد دورنا قناصات طبعًا".
وتضيف: "طلعونا من بيوتنا، قالولنا إخلوا المناطق ويلي بضل هون احنا مش رح نرحمه. احنا بالدور طبعًا الصواريخ يقع الزجاج كله على أطفالنا وعلى أولادنا، بالرعب نايمين على الأرض كل أطفالنا طبعًا. قعدنا يوم ونصف في المخيم من غير كهرباء ولا اي اشي نتواصل مع حدا، حيالله صواريخ وأطفالنا نايمين على الأرض".
"قالولنا إخلوا المناطق ويلي بضل هون احنا مش رح نرحمه. احنا بالدور طبعًا الصواريخ يقع الزجاج كله على أطفالنا وعلى أولادنا، بالرعب نايمين على الأرض كل أطفالنا طبعًا"
وفي السياق، تروي سائدة جرادات ما حدث معها في بدء الحملة العسكرية على مخيم جنين: "عشنا برعب طلعنا بملابس الصلاة ولا شي، دشرنا مصارينا وأغراضنا، صار القصف شفنا الناس بتطلع طلعنا، بيتنا أول المخيم. كانت الساعة تقريبا 12 بالليل، أمان بدنا نام والوضع طبيعي، بعد شوي بيقصفوا ورانا، انه في شباب بالبيت الفوقاني وقصفوا من غير أي إنذار، بعدها قصفوا باب القوس للمخيم هذه الضربة الثانية، صرنا نصيح بدنا نطلع.. توجهنا إلى المستشفى وبعدها إلى منطقة ثانية أكثر أمانًا".
روايات من داخل المخيم
صباح الأربعاء، الخامس من تموز، التقيتُ على باب المخيم بعائلةٍ عائدةٍ إلى منزلها في حارة الحواشين. لم أكن اكترث قبل لقائي بالأب بالروايات الأدبية التي تصف عيون أبطالها، مثلًا إن كانت حزينة أم فرحة وغيرها من المشاعر، كنت أنفر من هذه التفاصيل حتى رأيت عبد الرازق وصدق عيونه الحزينة وكفى.
يروي عبد الرازق: "أجانا تبليغ بإخلاء الدور وديروا بالكم على أولادكم من هذا المنطلق، طلعنا بالليل والدنيا عتمة كل واحد وعائلته طلعوا ومشينا ورا بعض، وحكولنا ارفعوا إيديكم لفوق وطلعنا".
ويضيف: "الأحداث التي حصلت بتختلفش كثير عن الاجتياح الأول، كله نفس الاشي المعاملات نفس الاشي الضرب هو هو، الإرهاب هو هو. مختلفش اشي. هدم البيوت والضرب كله مشابه بالاجتياح في 2002 وإرهاب الأولاد".
لم يكن لدى عبد الرازق أي تصور عن وضع بيته في حارة الحواشين بمخيم جنين، بعد أن نزح منه إلى منزل شقيقه في الحارة الشرقية بمدينة جنين، بعد منتصف ليلة الإثنين، حتى وصل إليه وتأكد بعدم تعرضه لأي هدم أو تكسير.
قابلت في المخيم أيضًا "أبو مجاهد"، الذي استخدم جنود الاحتلال منزله للقنص على المقاومين في المخيم. يقول: "تم اقتحام المنزل أول يوم تقريبًا وقعدوا حوالي 24 ساعة فيه، كان عندي طفلة عمرها شهر الكلب عضها وعض عمتي وزوجتي، تم حط قناصة في هذا المنزل على أكثر من شباك وتصاوب شباب منه".
التقيت بأبي مجاهد على باب منزله بعد أن تفقده ورأى آثار اقتحام قوات الاحتلال له، روى لنا أيضًا أحداثًا جرت في المخيم واستخدام سلاح الجو الإسرائيلي في حارات جورة الذهب وعبد الله عزام والسمران، إلى جانب التدخل البري في حارة الدمج.
آثار التجريف والتدمير منتشرة في مخيم جنين (تصل مساحته إلى 0.42 كيلو متر مربع)، وكذلك آثار الصواريخ في بداية حارة السمران، وفي منزل الشهيدين صهيب وعبدالله الغول في حارة الفلوجة، وفي حارة الحواشين أيضًا.
في الحارة الأخيرة رافقت السيدة عفاف، التي اضطرت للخروج من منزلها والتوجه إلى بلدة قباطية بعد قرابة اليوم على الحملة العسكرية على المخيم، خلال تفقدها آثار القصف الذي استهدف منزلها قالت: "شعوري عادي وبفتخر الحمد لله رب العالمين، الدور تتعوض المهم المجاهدين والشباب الحمد لله، ويعطيهم العافية".
روايات صحفية
روى الصحفي خالد بدير، مراسل قناة الغد، مشهد نزوح الأهالي من مخيم جنين، الذي بدأ في الساعة الثامنة من مساء الإثنين، الثالث من تموز، حيث نزح حوالي ثلاثة آلاف فلسطيني من أهالي المخيم، تمكنوا من النزوح على وقع الاستهدافات الإسرائيلية، العائلات خرجت ترفع أيديها، خرجت بملابسها فقط وتركت كل شيء.
نقل خالد بدير روايات عن مواطنين من المخيم، حيث تجمعوا في الساعات الأولى في غرف على وقع الاستهدافات الشديدة، وتعرضوا لترهيب من جيش الاحتلال باستمرار عملية قصف المنازل.
العائلات وصلت من محيط أطراف دوار الحصان على المدخل الشرقي للمخيم وبعدها إلى مستشفى جنين الحكومي، كان هناك مركبات من الهلال الأحمر تعمل على إخلاء المواطنين وكذلك أيضًا خلال الفترة الماضية كان هناك مركبات عمومية وحافلات لإخراج الناس من المنطقة، وفق بدير، مضيفًا أن عملية النزوح كانت متنوعة على أطراف المخيم وفي العمق، أي من الدمج وجورة الذهب والحواشين والساحة ومنطقة المدخل الغربي وخلة الصوحة.
أما المصور الصحفي حمزة زيود من جنين، فقد روى اللحظات الأولى لبدء الاقتحام، حيث بدأ في أطراف المدينة الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة الإثنين، الثالث من تموز، وبعدها وقع قصف مباشر دون سابق إنذار على نقطة تتبع للمقاومين في مخيم جنين، لافتا إلى اعتماد قوات الاحتلال على سلاح الجو في هذه الحملة بسبب خوفهم من تعطب آليات عسكرية جديدة وخسارة الجنود بفعل العبوات المتفجرة.
واستذكر الاقتحام السابق على مخيم جنين قبل حوالي أسبوع، بهدف إيصال رسالة بأن الطيران دخل العمل العسكري في جنين، مشيرًا إلى التطور في تصنيع العبوات المتفجرة التي لم تعد مثل الأكواع الصغيرة بل أصبحت قادرة على إعطاب آلية بشكل كامل وإخراجها عن الخدمة.