أكثر من نصف ساعة تحدث خلالها اللاجئ رجب مصطفى غانم "أبو جمال"، عن خروجه قسرًا من اللد وعائلته في عام 1948، روايًا تفاصيل اللجوء والتشرد، حتى اللحظة التي استذكر فيها حديقة والدته في فناء منزله وما فيها من ياسمين وفل وبيلسان وشجر الفتنة وتمر الحنه، فانهار باكيا بحرقة "هون ما بشم هاي الريحة حتى شجر البيلسان وتمر الحنا من بعد البلاد ما شفته".
أبو جمال (89 عاما) أحد اللاجئين الذين استقر بهم الحال في مخيم الأمعري الواقع بين مدينتي رام الله والبيرة، يعيش كما غيره من اللاجئين في بيت "وكالة" متواضع، وفي ذاكرته مسافة (69 عامًا) من الحكايات حول البلاد "البعيدة عن العين والقريبة من القلب".
سكان مدينة اللد خرجوا لمساعدة أهالي القرى المهجرة، ولم يعلموا أنهم سيواجهون مصيرهم بعد حين
ولد أبو جمال في العام 1928 في حارة الصوالحة بالمنطقة الغربية من مدينة اللد، ودرس في مدارسها حتى الصف السادس الابتدائي، ثم التحق بوالده للعمل في محل سمانه كان يمتلكه وسط المدينة، يبيع ويشتري من الفلاحين القادمين من القرى المحيطة بالمدينة و مدينة يافا القريبة. كان الوضع المادي والاجتماعي لعائلة أبو جمال جيدًا في المدينة، فكان يعيش في بيت كبير وفناء واسع و حوله حديقة فيها كل أنواع الورد والأشجار.
اقرأ/ي أيضًا: شاهد القبر الفلسطيني الذي تجاوز ثلاثة حدود
لم يدم الحال على ما هو عليه كما كل اللاجئين، ففي العام 1948 بدأت عمليات تهجيرهم من القرى و المدن الفلسطينية، وهو ما كان يصل لمسامع أهالي اللد، ومن بينهم أبو جمال، في روايات أهالي قرى يافا الذين بدؤوا بالخروج من بلادهم والاحتماء بالمدينة.
يقول: "في بداية شهر نيسان هجر أهالي قرى سلمة والعباسية وجمزو إلى المدينة، من كان يعرف أحدًا هناك كان يسكن عنده، وكثيرين نصبوا خيامًا وسكنوا فيها، ثم بدأت الهجمات الصهيونية على القرى القريبة من اللد، وتم احتلال مطار اللد، وتضاعف عدد سكان المدينة، وتجمع معظم الهاربين إليها في المسجد الكبير " دهمش".
أهالي المدينة في حينه كانوا يخرجون لمساعدة القرى المهجرة بالمقاومة، ولم يكن أحد منهم يعتقد أنهم سيواجهون نفس المصير بعد أقل من ثلاثة أشهر.
في العاشر من تموز/يوليو بدأ الهجوم على اللد، وكانت من آخر المدن التي هجرت في حينه، وتركز الهجوم على المنطقة الشرقية والبلدة القديمة من المدينة، فكانت عائلة أبو جمال التي تسكن غربي المدينة بعيدة عما حصل هناك من مجازر، ولم يشاهد أفرادها سوى الجثث التي كانت تنقل وتدفن في المقبرة القريبة منهم، وبعد يومين كان الخروج الجماعي من اللد.
يقول أبو جمال: "بعد هذه المجازر خرجنا مثل أهالي المدينة، أنا وأبي وأمي و أشقائي السبعة، وكنت الثاني عمرًا بينهم، ولم نخرج معنا سوى بعض الطحين والأغطية، بعد أن قام والدي بجمع كل ما نملك من أموال ومصاغ في تنكة زيت ودفنها في حديقة المنزل".
أغلق والد أبو جمال باب منزله ومضى مع أهالي المدينة واللاجئين الذين احتموا داخلها خلال الأشهر السابقة. وقبل الخروج من المدينة مر الأهالي بحاجز للعصابات الصهيونية التي كانت تفتش الخارجين وتسلب كل أموالهم، وهو ما يذكره أبو جمال جيدا. يقول: "كانت سرب الجنود منتشرة في الطرق وتوقف كل من يخرج من المدينة وتفتشه بحثًا عن المال والسلاح والذخيرة".
خرج قسمٌ من أهالي اللد مشيًا على الأقدام باتجاه نعلين غرب رام الله، وعلى الطريق قتل العطش والتعب عددًا منهم
استمر المسير الجماعي لأهالي اللد و القرى المحيطة بها لأيام، رغم أنهم لم يمتلكوا حتى مياه الشرب، ما تسبب بارتقاء المزيد من الشهداء نتيجة العطش والتعب، حتى وصلوا إلى قرية نعلين غربي رام الله. نام أبو جمال وعائلته في نعلين تحت شجر الزيتون، وفي اليوم التالي واصلوا المسير حتى وصلوا لشارع "أسفلت" حيث استقلوا مركبة نقلتهم لمدينة رام الله.
في رام الله سكن أبو جمال و عائلته في منجرة مع عائلات أخرى، وبعد أيام بدأت العائلات تتفرق، فمنها من توجه لنابلس وآخرين إلى أريحا، فيما اختار والد أبو جمال الأنتقال لقطاع غزة، وتحديدًا منطقة البريج.
وبعد أشهر من استقرار عائلة أبو جمال في القطاع، قرر والده العودة إلى اللد لاسترجاع أمواله المدفونه، فالأوضاع المعيشية سيئة وفرصه الحصول على عمل كانت ضعيفة. غاب الوالد شهرًا كامل، لم يعلم أحد مصيره، حتى عاد يومًا يحمل "تنكة المصاري" وما استطاع حمله من البيت الذي وجده على حاله، وكأن أحد لم يدخله من بعدهم.
عودة الوالد كانت نقطة التحول في حياه أبو جمال وعائلته، حيث عاد بعدها والده إلى عمله الأصلي في اللد، ففتح "دكان سمانة".
تزوج أبو جمال في القطاع، ومع أحداث العام 1967 واحتلال باقي فلسطين، انتقل للعيش في مخيم الأمعري، حيث بيته الحالي الذي اشتراه وأكمل بناءه، ثم عمل في وكاله الغوث حتى تقاعد. ورغم ظروفه الجيدة مقارنة ببقية اللاجئين، إلا أنه لا يعتبر هذه السنوات امتدادًا للحياه التي عاشها في اللد. يقول: "صحيح تأقلمت مع الحياه ومع حياة المخيم، إلا أنني تركت حياه أخرى مختلفة تمامًا هناك".
أبو جمال لم يعد لزيارة اللد منذ خروجه الأول منها، يقول، إن إخوته وأهله زاروا المدينة أكثر من مرة، إلا أنه كان يرفض مرافقتهم. يعلل ذلك قائلاً: "لم أتحمل زيارتها، في قلبي حزن كبير عليها، وعتب أكبر عليها". 69 عامًا مرت على النكبة، إلا أنه يحمل أملا كبيرا رغم تقدم عمره للعودة إليها محررة. يقول: "لدي إيمان كبير بعودتنا، أحدث نفسي دائما بحتمية العودة بأي طريقة، ولم أفقد هذا الإيمان يوما".
اقرأ/ي أيضًا:
وادي قانا.. هل تتحقق النكبة الثانية؟