16-ديسمبر-2023
متظاهر يعكس غزة الجريحة في صنعاء باليمن -  Mohammed Hamoud/Getty Images

متظاهر يعكس غزة الجريحة في صنعاء باليمن -  Mohammed Hamoud/Getty Images

يخوض الشعب الفلسطيني معارك طاحنة في سبيل تحرره، واستعادة حقوقه المستلبة، لكن ورغم امتداد النضال التحرري الفلسطيني، وحجم تضحيات شعب فلسطين الكبيرة جدًا، لم يتحرر شعب فلسطين حتّى اللحظة، كما لم يستعد أيًّا من حقوقه المستلبة منذ ما قبل نكبة 1948، وذلك لأسباب عديدةٍ. ونحن اليوم أمام فرصةٍ جديدةٍ، وربّما قويةٍ لتحقيق كلّ ذلك، إذ أدّت عملية طوفان الأقصى إلى إعادة طرح القضية الفلسطينية قضيةً رئيسيةً ومركزيةً إقليميًا ودوليًا، وهو ما انعكس في تعدد تصريحات قادة العالم حول ضرورة حلّ قضية فلسطين بسرعةٍ وبحزمٍ، وذلك عبر تطبيق حلّ الدولتين، وفقًا لهم.

نلاحظ في الأيّام الأخيرة تسارعًا ملحوظًا في الجهود الإقليمية والدولية الساعية لفرض وقفٍ لإطلاق النار في قطاع غزة، والشروع في عملية سياسية ما 

من ناحيةٍ أخرى، نلاحظ في الأيّام الأخيرة أيضًا، تسارعًا ملحوظًا في الجهود الإقليمية والدولية الساعية لفرض وقفٍ لإطلاق النار في قطاع غزّة تحديدًا، إلى جانب استنكارٍ دوليٍ وإقليميٍ لاعتداءات الاحتلال ومستوطنيه على فلسطينيي الضفّة الغربية ومناطقها. بل تعددت كذلك دلالات قبول قادة الاحتلال الصهيوني بوقف إطلاق النار، والشروع في عمليةٍ سياسيةٍ ما، يسعى الاحتلال إلى حصرها بقضيةٍ واحدةٍ فقط، هي استعادة أسراه لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، مقابل تبييض؛ أو شبه تبييض، سجونه من الأسرى الفلسطينيين. نجد أوضح مثال على ذلك في تصريح وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت، أثناء زيارته لقواته المتمركزة في قطاع غزة في 2023/11/26، إذ قال "لن نترك غزّة حتّى إعادة المخطوفين"، وهو ما يوحي بتراجع قادة الاحتلال عن أهدافهم التي أعلنوها ردًا على عملية طوفان الأقصى، والمتمثّلة في القضاء الكامل على حركة حماس وحكومتها، فضلاً عن اغتيال قادتها وعناصرها، خصوصًا من شارك منهم في العملية، وقد ذهبوا في بعض المراحل إلى الإعلان عن رغبتهم في تسليم القطاع لاحقًا إلى سلطةٍ أو إدارة فلسطينيةٍ أو إقليميةٍ موثوقٍ بها صهيونيًا.

كذلك نلحظ كثرة تهديدات بعض مكونات حكومة الاحتلال الحالية بحلّ الحكومة في حال توصلها إلى اتّفاقٍ مع حماس -عبر الوسطاء الإقليمين- يفضي إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار في قطاع غزّة، وهو ما يشير إلى مداولاتٍ صهيونيةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ بشأن هذا الاحتمال وجديته.

إذًا هناك مؤشراتٌ جديةٌ لبدء مسارٍ سياسيٍ حقيقيٍ، يرغب الاحتلال في حصره بشأن الأسرى فقط، في حين يسعى المجتمع الدولي، وقسمٌ كبيرٌ من دول الإقليم إلى جعله مسارًا سياسيًا شاملًا، يفضي إلى حلٍّ سياسيٍ دائمٍ، وفقًا لمبدأ الدولتين. من هنا تبدو فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، أمام اختبارٍ جديدٍ وحاسمٍ، قد يفضي إلى تحقيق انتصارٍ ساحقٍ سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا وإعلاميًا، أو قد يؤدي إلى هزيمةٍ سياسيةٍ مؤلمةٍ، إن نجح الاحتلال في تغييبّ العملية السياسية الشاملة، لصالح عملية جزئية محصورة بقضية الأسرى وتبادلهم فقط. فعلى الرغم من أهمية قضية الأسرى الفلسطينيين، وعلى الرغم من الإجماع الفلسطيني على أولويّتها، إلّا أنّ ثمن عملية طوفان الأقصى الباهظ بشريًا وعمرانيًا، إلى جانب أسطورية العملية وقوتها، وصعوبة تنفيذ عمليةٍ جديدةٍ نوعيةٍ قريبًا، فضلًا عن أهداف العملية التي أعلنتها الحركة منذ اليوم الأوّل، تجعل من أيّ اتّفاقٍ سياسيٍ جزئيٍ لا ينهي حصار قطاع غزّة كليًا، ولا يضع حدًّا لاعتداءات الاحتلال ومستوطنيه المتكررة على المسجد الأقصى، ومدينة القدس، والضفّة الغربية، بمثابة هزيمةٍ سياسيةٍ كبرى، بل وغير سياسيةٍ أيضًا.

بناءً عليه، وبغرض تحقيق أهداف شعب فلسطين المشروعة، وعلى رأسها التحرر الكامل والشامل، والعودة، وتقرير المصير، وإقامة دولة فلسطين على كامل ترابها الوطني، على فصائل المقاومة الفلسطينية اتباع نهجٍ سياسيٍ فلسطينيٍ جديدٍ، مستمدٍ من نجاحها في إدارة جهودها العسكرية ضمن ما يعرف بالغرفة المشتركة، يجعل من العملية السياسية عمليةً فلسطينيةً تشاركيةً، بدلاً من حصرها في فصيلٍ واحدٍ أو اثنين.

لذا يطالب الكاتب حركة حماس بدعوة جميع الفصائل الفلسطينية، إلى جانب الأفراد والهيئات الناشطة سياسيًا وإعلاميًا وحقوقيًا وتنمويًا، وبعض الخبراء والاختصاصيين إلى تشكيل غرفةٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ، يستثنى منها لاحقًا أيّ طرفٍ أو جهةٍ تقوض النضال التحرري الفلسطيني، أو تنسق وتتواصل مع الاحتلال، أو عبر وسطاء دون تفويضٍ من هذا الإطار. إذ تتحمل هذه الغرفة التشاركية مسؤولية إدارة العملية السياسية، والحوار مع الأطراف الإقليمية والدولية، بما فيها تلك المعنية بقضية الأسرى، إلى جانب مسؤوليتها الإعلامية في نشر الرواية الفلسطينية دوليًا، وفي تنسيق الجهود الإقليمية والدولية لكسر حصار الاحتلال على قطاع غزّة، وعلى سائر مدن فلسطين المحتلة، فضلاً عن الجهود القانونية الساعية إلى محاكمة الاحتلال وقادته وداعميه الدوليين مؤسساتٍ وأفرادًا.

هذه الدعوة، وهذا الآلية التشاركية، تحقق جملةً من الأهداف، أوّلها؛ إنهاء الانقسام السياسي الداخلي، عبر بناء غرفةٍ تشاركيةٍ قياديةٍ، تعزل الأطراف الانهزامية؛ بالحدّ الأدنى. وثانيًا؛ تحول العملية السياسية إلى عمليةٍ شاملةٍ للكلّ الفلسطيني، وبالتالي تكون شاملةً لكلّ فلسطين. وثالثًا؛ تحرر فصائل المقاومة من ابتزاز الاحتلال وداعميه، خصوصًا سعيهم لحصر العملية السياسية في اتّفاق تبادلٍ للأسرى يشمل دخول مساعداتٍ إنسانيةٍ محدودةٍ لقطاع غزّة المحاصر منذ 17 عامًا. كما تعزز هذه الغرفة من حظوظ سيطرة الفلسطينيين على مسار العملية وحيثياتها رابعًا، بدلاً من سيطرة الأطراف الدولية والإقليمية عليها. وخامسًا تساهم في توسيع الجبهة الفلسطينية داخليًا وخارجيًا، بما يشمل كلّ الأراضي الفلسطينية، وكلّ الفلسطينيين، إلى جانب كلّ القوى السياسية والأهلية والمدنية الداعمة لفلسطين وشعبها. سادسًا؛ صناعة مرجعيةٍ فلسطينيةٍ صلبةٍ تكبح أيّ تنازلٍ سياسي محتمل، قد يُفرض على طرفٍ من أطرافها، نتيجة اعتباراتٍ عديدة.

قبل الختام؛ قد يدعو بعضهم إلى تفعيل منظّمة التحرير بدلاً من ذلك، وهذا برأي الكاتب غير مجدٍ لاعتباراتٍ عديدةٍ، أهمّها تقاعس المنظّمة، ووليدتها السلطة الفلسطينية عن الدعوة إلى توحيد الصف السياسي الفلسطيني في أعقاب عملية طوفان الأقصى، وبعد العدوان الإرهابي الصهيوني على قطاع غزّة وكلّ فلسطين. إلى جانب عدم شمول المنظمة لأهمّ الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية الفاعلة ميدانيًا اليوم، وعلى رأسهم حركتي حماس والجهاد، فضلاً عن عدم شمولها لغالبية الهيئات المدنية والأهلية الناشطة والفاعلة داخل وخارج فلسطين، وأخيرًا افتقاد المنظّمة لآليات العمل والإدارة التشاركية منذ سنواتٍ طويلةٍ خلت، تعود بنا إلى ثمانينيات القرن الماضي؛ ربما قبل ذلك، إذ تخضع المنظّمة إلى هيمنة تيارٍ واحدٍ فقط، يتحكم بها سياسيًا وماليًا، بدعمٍ إقليميٍ ودوليٍ.

ختامًا؛ لا تنتقص الغرفة المشتركة السياسية من شعبية حركة حماس، التي اكتسبتها على مدار تاريخها النضالي، أو حتّى التي اكتسبتها بعد عملية طوفان الأقصى، بل على العكس سوف تعزز هذه الغرفة من شعبية الحركة، وتمكّنها من تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها في السابع من أكتوبر الماضي، بالحدّ الأدنى. وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ إرغام الاحتلال وداعميه على المضي في المسار السياسي الشامل الآن، وربما إنهاء عدوانه على قطاع غزّة على الأقلّ، كان حصيلة نضالٍ جماعيٍ يشمل فدائيي فلسطين، الذين تصدوا ويتصدون لاقتحامات قوات الاحتلال العسكرية، خصوصًا في قطاع غزّة، إلى جانب صمود الفلسطينيين المقيمين داخل قطاع غزّة، رغم سعي الاحتلال إلى تهجيرهم قسريًا أو إبادتهم جماعيًا عبر القصف الهمجي المتواصل، أو عبر التجويع والحصار الخانق، فضلاً عن سعيه إلى زرع شقاقٍ بينهم وبين فصائل المقاومة. أضف إلى ذلك جهود مجموعاتٍ عديدةٍ ساهمت في نشر الرواية الفلسطينية، وفي فضح جرائم الاحتلال الدائمة والمستمرة دوليًا وإقليميًا، الأمر الذي أفضى إلى بناء حاضنةٍ دوليةٍ شعبيةٍ داعمةٍ للفلسطينيين وقضيتهم، وهو ما قوّض ويقوّض دعم المجتمع الدولي للاحتلال دون شرطٍ أو قيدٍ، أو قد يضعه تحت المجهر بالحدّ الأدنى، وهو ما بات مطلبًا لشرائح واسعة حول العالم، بما فيها داخل الولايات المتّحدة الأميركية.