"إلى أهالي قطاع غزة الحبيب..."، ربما تكون هذه العبارة التي تظهر في إعلانات على منصّات التواصل الاجتماعي، مقدّمة لعملية استغلال كبيرة تطال أهالي قطاع غزة، ممن يحتاجون لاستصدار وثائق رسمية من المؤسسات الحكومية في الضفة الغربيّة. يبدو الأمر ظاهريًا وكأنّه "تسهيل" لأمورهم، ولكنّه في الواقع لا يتم إلا بجباية رسوم مضاعفة منهم.
يضطر أهالي قطاع غزة ممن يحتاجون لاستصدار وثائق رسمية من وزارة الداخلية بالضفة الغربية، لدفع مبالغ مضاعفة لسماسرة معاملات
وأدّت حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ أكثر من 200 يوم، لتدمير غالبية المقارّ الحكومية في قطاع غزة، وفقدان كثيرين لمستنداتهم الرسمية تحت ركام منازلهم المدمّرة. وهو ما دفعهم لتوكيل أشخاص (يعرفونهم أو لا يعرفونهم) بهدف استصدار الوثائق التي يحتاجونها، مثل شهادة الميلاد، وعدم المحكومية، وجواز السفر، والهوية الشخصية، وشهادة الزواج، وحسن السيرة والسلوك، وشهادة الثانوية العامة، وغيرها من الوثائق التي تعتبر أساسية في حياة الشخص، وتزداد الحاجة لها إذا ما قرر الشخص السفر للخارج.
ويعتبر استصدار شهادة الميلاد للمواليد الجدد خلال الحرب، من أهم الوثائق التي يحتاجها أهالي قطاع غزة، وتبلغ تكلفة طابع استصدار شهادة الميلاد (ديناران أردنيّان فقط)، أي ما يعادل 12 شيقلًا باعتبار أن سعر صرف الدينار ثابت في المؤسسات الرسمية، وهو 6 شواقل، غير أن بعض "السماسرة" يتقاضون مبلغًا يصل 120 شيقلًا مقابل إصدار هذه الشهادات من مديريات وزارة الداخلية التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ثم إرسال نسخة (PDF) منها للعائلات في غزة، ما يعني أنهم يأخذون نحو 10 أضعاف قيمة استصدارها.
كذلك، تبلغ تكلفة إصدار جواز السفر نحو 210 شواقل، إلا أن بعض مكاتب الخدمات والسماسرة يأخذون مقابل استصداره ضعف المبلغ وأكثر.
وفيما يخصّ رسوم بقيّة الوثائق مثل "ورقة لمن يهمه الأمر" و"البيان العائلي" و"شهادة الوفاة" فإنّ كلفة طابعها البريديّ ديناران فقط، أمّا "شهادة الزواج" فهي خمسة دنانير، بحسب ما ورد "الترا فلسطين" من وزارة الداخلية في رام الله. لكنّ "سماسرة" يعملون في استصدار هذه الأوراق الرسمية، يتقاضون على الوثيقة الواحد نحو 10 أضعاف القيمة الرسمية أو أكثر، وعلى سبيل المثال، فإنهم يأخذون على استصدار "شهادة الزواج" 120 شيقلًا.
والأمر لا يقتصر فقط على الوثائق الصادرة عن وزارة الداخلية، بل هناك وثائق أخرى كالشهادات المدرسية والجامعية، وكل هذه الوثائق لا تزيد تكلفة استصدار أي منها عن 30 شيقلًا، بحسب البيانات المعلنة عبر موقع الوزارة، إلّا أن "السماسرة" يتقاضون مقابلها استصدار الواحدة منها نحو 150 شيقلًا.
سماسرة المعاملات يبررون الأسعار المرتفعة لقاء استصدار الوثائق بأنّ الأمر يحتاج مواصلات، وبذل مجهود، وتحمّل مسؤولية
تواصلنا في "الترا فلسطين" مع الأرقام المرفقة مع بعض الإعلانات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي للاستفسار عن الأرقام التي يتقاضونها مقابل استصدار وثائق لأهالي غزة الذين يعانون ويلات الحرب، فادّعى بعض أصحاب هذه الأرقام أنهم "سحبوا هذه الإعلانات".
لكن، مصادر في غزة أكدت لـ الترا فلسطين أن من يقومون بدور السمسرة مستمرّون في أخذ مبالغ عالية، وأرقامهم متداولة في يد المواطنين بغزة.
وقال شخص آخر لـ "الترا فلسطين" إنّه توقف عن استصدار شهادات الميلاد لأن هناك مستشفيات في غزة تصدرها هذه الأيام. وفي الوقت ذاته برر طلبه مبلغًا مرتفعًا لقاء استصدار شهادات رسمية بأنّ الأمر يحتاج إلى تكاليف مواصلات وبذل مجهود، وتحمُّل مسؤولية.
يقول "م. ح" وهو طالب من قطاع غزة يستكمل دراسة مرحلة الدكتوراه في دولة عربيّة، إنه فقد جواز سفره خلال الحرب، ما اضطره للعمل على استصدار جواز سفر جديد.
الطالب الذي رفض الإفصاح عن اسمه لتجنّب أي قيود سفر مستقبلاً، أكد لـ "الترا فلسطين"، أنه توجه إلى مكتب خدمات، فطلب منه مبلغ 100 دولار مقابل استصدار جواز السفر، ما دفعه للتواصل مع صديق له في رام الله، والذي استصدر له جواز السفر بضمان هويته الشخصية مقابل 210 شواقل.وأكد الطالب ذاته أن أحد أقاربه اضطر لدفع مبلغ 1200 شيقل لاستصدار جوازات سفر له ولزوجته ولابنه.
وزارة الداخلية: أصدرنا 30 ألف معاملة تخص أهالي قطاع غزة منذ بداية الحرب
يؤكد مدير عام الأحوال المدنية في وزارة الداخلية أحمد زبن لـ الترا فلسطين، أن هناك سماسرة يواصلون بالفعل استغلال المواطنين من قطاع غزة في هذه الظروف، مضيفًا أن الوزارة تتابع أي شكوى ترد إليها، وتحوّلها للمتابعة.
وأوضح أحمد زبن، أن استصدار شهادة الميلاد في الوضع الطبيعي يكون عبر إحضار شخص ما وكالة من العائلة، أو أن يحضر ولي الأمر بنفسه، ولكن بعد الحرب على غزة، ونتيجة الظروف الحالية وصعوبة استصدار شهادات الميلاد في قطاع غزة، صدرت لهم تعليمات باتخاذ إجراءات جديدة استثنائيًا، تُسهّل استصدار شهادات الميلاد لأهالي القطاع.
وبيّن أن الإجراءات الجديدة تنص أن يبعث أهل المولود في قطاع غزة لهم من خلال شخص موجود في الضفة الغربية أو قريب أو جهة اعتبارية تبليغ الولادة الصادر عن المستشفى، وتقرير خروج الأم من المستشفى، حتى تتمكن وزارة الداخلية من التثبّت من الأمر، بالإضافة إلى دفع الرسوم المقررة، وهي نفس الرسوم في محافظات الضفة وغزة.
لكن أحمد زبن أكد أن وزارة الداخلية أوقفت هذه الآلية قبل يومين بعدما علمت بتشغيل 4 مراكز جديدة في غزة لتسجيل المواليد، أحدها في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، والبقية في وسط قطاع غزة وجنوبه.
وقال إنّه وبعد الحصول على شهادة الميلاد الصادرة في غزة من هذه المراكز، إذا ما رغب أهالي الطفل بالإمكان طباعة شهادة ميلاد لهم في الضفة الغربية.
مدير عام الأحوال المدنية في وزارة الداخلية برام الله: هناك سماسرة يستغلّون حاجة أهالي غزة، ونتابع الشكاوي التي تصلنا
وأشار أحمد زبن إلى أن هناك أشخاصًا يلعبون دور "سماسرة" في استصدار كافة المعاملات الرسمية، وبين هؤلاء مكاتب في غزة، وأطراف أخرى في الضفة الغربية. وأوضح أن رسوم الوزارة لإصدار شهادة الميلاد ثابتة، وهي (ديناران)، أو 12 شيقلًا، أما إذا قام الشخص بتعبئة الطلب في مكتب خدمات، فإنه يدفع 20 شيقلًا أو 25 شيقلًا للمكتب.
واستدرك بأن وزارة الداخلية لا تستطيع منع الناس من التقدّم لاستصدار الوثائق في حال كان الأمر حسب القانون، والرسوم التي تتقاضها هي ذاتها سواء لمحافظات غزة أو الضفة، ولكن هناك من يتواصل مع "السماسرة" و"التجار" ويدفع لهم مضطرًا، ونحن دورنا أن نتابع مكاتب الخدمات باستمرار، وأي مكتب خدمات تتلقى وزارة الداخلية شكوى بخصوصه، تحوّلها للجهات القانونية وتوقف ترخيص التعامل معه.
وبحسب وزارة الداخلية في الضفة الغربية، فقد أصدرت الإدارة العامة للأحوال المدنية منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة حتى 22 نيسان/ ابريل الجاري، نحو 30 ألف وثيقة، موزعة على" تعديل وإدخال معاملات مواليد "غزة" وجوازات سفر، وإصدار شهادة ميلاد باللغة العربية والإنجليزية، وإصدار شهادة ميلاد بدون رقم هوية، وتسجيل مواليد الحرب، وإصدار شهادة لمن يهمه الأمر "بيان عائلي"، وإصدار هويات، ومعاملات للسفارات بمختلف أنواعها.