02-سبتمبر-2019

بدأت السنة القضائية الجديدة، وعاد القضاة إلى مكاتبهم في محاكم الضفة الغربية، استعدادًا لبدء النظر في الملفات القضائية المتراكمة أمامهم، بعد أن أكمل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي تشكيل مختلف الهيئات القضائية، بدءًا من المحكمة العليا وانتهاءً بمحاكم الصلح في الضفة الغربية، في ظل غياب أكثر من 36 قاضيًا تمت إحالتهم من محاكم الضفة إلى التقاعد القسري بموجب مرسوم قرار بقانون، عدا عن قضاة قطاع غزة الذين تقاعدوا.

36 قاضيًا تمت إحالتهم من محاكم الضفة إلى التقاعد القسري بموجب مرسوم قرار بقانون، عدا عن قضاة قطاع غزة الذين تقاعدوا

وقرر مجموعة من القضاة المتقاعدين التوجه إلى المحكمة الدستورية للطعن بدستورية القرار بقانون، فيما اختار قضاةٌ آخرون مطالبة الرئيس عبر بيان أصدروه بالرجوع عن القرار، وبذلك بدأت السنة القضائية الجديدة منصوبةً على فوهة قرار المحكمة الدستورية.

اقرأ/ي أيضًا: القضاء.. عدالة انتقالية أم هيمنة تسلطية

المحكمة الدستورية هي صاحبة الاختصاص في البت في هذا النزاع، وهي محكمةٌ تشكلت بقرار من الرئيس، وقرارتها تعكس إلى درجةٍ كبيرةٍ إرادة الرئيس، أكثر مما تعبر عن فحوى ومضمون القانون الأساسي الفلسطيني الذي تستند إليه في قرارتها، وقد اتضح ذلك في الكثير من القرارات التي اتخذتها، مثل رفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، ثم قرارها بحل المجلس التشريعي، لذا يترقب الجميع قرار الدستورية في المرسومين الذين أصدرهما الرئيس محمود عباس، وبموجبهما تم تعديل سن التقاعد للقضاة ليُصبح 60 عامًا، وتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي تولى قيادة القضاء لمدة عام قابلة للتمديد ستة شهور إضافية.

المراقبون في حيرةٍ من أمرهم حول القرار الذي ستصدره المحكمة الدستورية، وليسوا في حيرةٍ قانونيةٍ من ذلك، بل هم في حيرةٍ إن كانت ذات المبررات التي جعلت الرئيس يحيل القضاة إلى التقاعد ويشكل مجلسًا أعلى انتقاليًا للقضاء؛ ما زالت قائمة أم لا. وبالتالي يتوقعون أن يكون القرار قريبًا من هذه المبررات أكثر من قربه إلى قواعد القانون، فقد انتقدت المؤسسات الحقوقية من قبل قرارات الدستورية، واعتادت المحكمة الدستورية على مثل هذه الانتقادات.

تزداد الحيرة، لأن جهات صنع القرار القريبة من الرئيس لها آراء متباينة فيما حصل في القضاء، مما زاد من صعوبة التنبؤ بقرار المحكمة الدستورية، ومن أكثرهما تأثيرًا.

جهات صنع القرار القريبة من الرئيس لها آراء متباينة فيما حصل في القضاء، مما زاد من صعوبة التنبؤ بقرار المحكمة الدستورية

المراقبون يتوقعون ثلاثة سيناريوهات يمكن أن يكون أحدها قريبًا إلى جوهر ما ستقرره المحكمة الدستورية. السيناريو الأول، أن تقبل المحكمة الدستورية الطعن المقدم من القضاة، وتقرر بموجبه عدم قانونية القرارين بقانون، وبالتالي يعود القضاة المتقاعدون إلى مزاولة أعمالهم، ويُحلّ أيضًا المجلس الأعلى الانتقالي.

بإمكان المحكمة في هذا السيناريو أن تُسند رأيها إلى القانون الأساسي الفلسطيني، وسيكون قرارها في هذه الحالة مخالفًا للمبررات التي قادت الرئيس لإصدار هذين القرارين، لكن ذلك يبقى من ضمن الاحتمالات الممكنة.

اقرأ/ي أيضًا: إنهم يخشون إصلاح القضاء

السيناريو الثاني، أن ترد المحكمة الدستورية الطعن المقدم إليها من قبل القضاة، وأن تبرر قرارها بقراءةٍ خاصة بها للقانون الأساسي الفلسطيني، وتعطي الرئيس حق تعديل القانون وتعتبر ذلك من صلاحياته، وأن تضمن في ذات الوقت عدم تعرض الحقوق المالية للقضاة لأي انتقاص، وكأنهم تقاعدوا على عمر 70 عامًا، وبذلك تعوض القضاة بالمال، وتعوض الرئيس بالقانون، ويبدو قرارها منصفًا للقضاة المتقاعدين من جهةٍ وغير منصف من الجهة الأخرى، لكنه يضمن استمرار خطة الإصلاح التي تمت بموجب قرار الرئيس.

السيناريو الثالث، أن تقرر المحكمة الدستورية عدم قانونية القرار بقانون المتعلق بتقاعد القضاة، وتعيد القضاة المتقاعدين للعمل، وتقرر في ذات الوقت قانونية القرار بقانون المتعلق بتشكيل مجلسٍ أعلى انتقالي، وبالتالي تلقي المحكمة على كاهل مجلس القضاء الأعلى الانتقالي ورئيسه مسؤولية تنقية المحكمة العليا من أية شوائب، وتضمن في ذات الوقت عدم وضع كل القضاة في نفس السلة وعلى نفس الميزان، وبالتالي خضوع كافة القضاة للتقييم، وحصر خطوات الاستبعاد بمن تدور حولهم شبهات وفقًا للصلاحيات الممنوحة للمجلس الإنتقالي.

الإشكالية الحقيقية، أن المحكمة الدستورية لم تصدر قرارها حتى هذه اللحظة، وسرعة صدور قرارها أمرٌ بمنتهى الأهمية، وسيضع حدًا لحالة الترقب والجدل الدائرة في المجتمع الفلسطيني بصورة عامة، وفي الوسط القضائي بصورة خاصة، والمنقسمة ما بين مؤيدين لمرسومي الرئيس باعتبارهما مدخلاً ممكنًا لإصلاح القضاء، رغم انتقاد بعض مضامين القرارين، وبين رأي آخر يعتبر القرارين مساسًا باستقلال القضاء.

الوسط القضائي منقسمٌ بين مؤيدين لمرسومي الرئيس، وآخرين يرونهما مساسًا باستقلال القضاء

يُجمِعُ أصحاب كلا الرأيين أن العيب الأساسي في المرسومين هو المساواة بين "الغث والسمين" بإحالة جميع القضاة إلى التقاعد، وبالتالي المساواة بين قضاةٍ مشهودٍ لهم بالنزاهة والعدل، وآخرين يبدو أن الإصلاح يتطلب إبعادهم عن القضاء. كما مسَّ القرار أيضًا بحقوقٍ ماليةٍ لقضاة تقاعدوا دون أن يكملوا سن التقاعد، وبالتالي لحِقَ بهم ضررٌ ماديٌ، إضافة إلى الضرر المعنوي الذي مس كرامتهم.

وبرأي كثيرين، قد يشكل قرار المحكمة الدستورية بغض النظر عن مبرراته القانونية مدخلاً لإزالة الضرر الذي أصاب القضاة في كرامتهم أو في حقوقهم المالية، ويضمن في نفس الوقت أن تستمر خطوات الإصلاح وفقًا للصلاحيات الممنوحة إلى المجلس الانتقالي.

وعبرت العديد من الجهات -كانت آخرها نقابة المحامين- عن دعمها لمثل هذا التوجه، ويمكن تحقيقه من خلال قرار تتخذه المحكمة الدستورية، أو تعديل يتقدم به المجلس الانتقالي إلى الرئيس، يمكن من خلاله إزالة الضرر الذي لحق بالقضاة، وفي المقابل يحافظ على خطوات الإصلاح.

المراقبون يلحظون بطئًا في الخطوات التي اتخذها المجلس الانتقالي في عملية الإصلاح حتى هذه اللحظة، إذ اتسمت كافة القرارات التي اتخذها المجلس الانتقالي حتى هذه اللحظة في محاربة من تحوم حولهم شبهاتٌ إن وجدوا أصلاً بالبطء الشديد.

تركزت جهود المجلس على إعادة ترميم الهيئات القضائية وبنائها حتى تكون جاهزة للعمل مع بدء السنة القضائية، ويبدو أنه نجح في ذلك، ويبدو أن البطء والحذر بالقرارات مرده التريث إلى أن تقول الدستورية كلمتها، وهذا يتطلب أن تسرع المحكمة بقول كلمتها الفاصلة، فلا يجوز أن يبقى العام القضائي قائمًا على فوهة بركان، فقرارها ملزمٌ للجميع وقادرٌ على دفع القضاء خطوة إلى الأمام في تحقيق استقرار القضاء وفاعليته، ودعم عملية الإصلاح في ذات الوقت.


اقرأ/ي أيضًا: 

هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟

سقوطٌ مدوٍ للتعليم القانوني في تعيين قضاة

الديموكتاتورية نظام حكم فلسطيني