على الرغم من الندرة الشديدة للسيارات الفارهة في طرقات غزة الرئيسية الخمس، إلا أن المارة قد يُصادفون إحداها تسير في شارع عمر المختار المكتظ بالمتسوقين؛ وقد لا يُلقون لها بالاً، بسبب كومة الغبار وروث الطيور الذي يكسو سقفها وغطاء مُحركها ذو الأسطوانات الثماني.
الأمر قد يكون مختلفًا تمامًا إذا ما شوهد بريق تلك الأيقونات الميكانيكية في دولةٍ أوروبية أو خليجية ما، أما من يقتنون في غزة سيارة من طراز BMW-X6 أو مرسيدس من الفئة C أو "Toyota FJCruiser" أو "Hummer H3" فإنهم يُفضلونها مغمورةً بغبارها، ليس لضيق ذات اليد؛ بل لـ "درء للحسد وردّ العين" لأطول فترةٍ ممكنة، كما يقولون.
"أريد أن تكون سيارتي كركوعةً مغبرّة في نظرهم. إعارة السيارة أشبه بإعارة الزوجة"
أيمن حشيشو، مالك إحدى مغاسل السيارات غرب المدينة يقول إن زبائنه من مالكي السيارات الفاخرة أقل كثيرًا من نظرائهم للسيارات العادية، على الرغم من أن تسعيرة الغسيل الكامل للسيارة الواحدة لا يتجاوز 15-20 شيكلاً على أبعد تقدير. "أعتقد أنهم يخشون أن يُنظر إليهم على أنهم أثرياء في بلدٍ يعيش غالبيتها الساحقة في فقر ولا يملكون حتى ثمن إحدى ماسحات الزجاج لتلك السيارات".
"لا شيء يدعو لإخفاء تلك الرفاهية! إن الأمر مشابهُ لإخفاء فيلا فاخرة عن أعين المارة، وهذا مستحيل". يقول حشيشو (40 عامًا).
وبحسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نسبة الفقر في قطاع غزة وصلت إلى 53% من السكان، البالغ عددهم في العام الماضي نحو 1.94 مليون نسمة، بينما وصل معدل الفقر المدقع بين السكان 33.8%.
أما "زهدي. أ.ت" الذي يُفضل دومًا اقتناء سيارات الـ BMW–"الفئة الثالثة"، فيقول إنه لا يودّ الظهور أمام أنسبائه مظهر "الثري جدًا"، حتى لا يفكرون مطلقًا باستعارتها أو حتى الاستدانة المالية منه. "أريد أن تكون سيارتي كركوعةً مغبرّة في نظرهم". يقول زهدي لـ الترا فلسطين ساخرًا، ويُضيف، "إعارة السيارة أشبه بإعارة الزوجة".
قد يرى من يتبنون نظرية "زهدي" أنه "مُحق"؛ إذ يضطر الراغبون بشراء السيارات لدفع أكثر من 150% من ثمنها لصالح الجمارك، فتفرض وزارة المالية في رام الله جمارك بنسبة 50% على المركبات المستوردة ذات المحركات سعة 2000 CC. ومافوق ذلك تكون ضريبته بنسبة 75%.
رأفت أبو هاشم، الذي يُدير واحدًا من نحو 500 معرض للسيارات المنتشرة في غزة، يؤكد أن زبائن مفضلين لديه اقتنوا سيارات من طراز "نيسان" اليابانية الصنع واستمروا في قيادتها أسابيع طويلة دون أن يُزيلوا طبقة الغبار السميكة التي تعرضت لها في فترة وقوفها الطويلة في معبر كرم أبو سالم الحدودي.
"إذا ما فكروا في استبدالها أو بيعها، فإنهم سيقنعون المشتري الجديد أن هذه السيارة بغبرتها الأصلية"
"إذا ما فكروا في استبدالها أو بيعها، فإنهم سيقنعون المشتري الجديد أن هذه السيارة بغبرتها الأصلية" يقول أبو هاشم مستغربًا، ويضيف، "لا أعلم كيف يستمتعون بقيادتها وهي تُخفي لونها الحقيقي كما لو أنها نجت من قصف عمارةٍ سكنية، لكن يبدو أنهم يُحاولون إبعاد أعين الفضوليين الذين يُجيدون التدقيق في التفاصيل".
يُشار إلى أن تجار السيارات في غزة كانوا يستوردون 110 مركبات أسبوعيًا، إلا أن ذلك العدد تقلص إلى 30 فقط كل أسبوعين.
في المقابل، فإن أشخاصًا آخرين من المارة "الحانقين" على "الإساءة" إلى تلك السيارات المغبرّة بدعوى "ردّ الحسد والعين"، لا يتورّعون عن خطِ عبارات ساخرة على نوافذ تلك القطع الميكانيكية، التي تدعو مالكيها لـ"حُسن معاملتها" وغسلها لتستعيد بريقها. فقد خطّ أحدهم عبارة "اغسلني" على أحد سيارات الدفع الرباعي المتوقفة قرب الشاطئ.
أما عبد الحكيم عبيد، الذي يحلم باقتناء سيارة "بورش كاريرا"، فيعتقد أن اضطرار البعض لإخفاء سيارته في الوحل والغبار نابعُ من تضليل رجال المرور الذين قد لا يندفعون لإيقاف سيارةٍ فارهة في حملةٍ مرورية.
"يعتقد رجال الشرطة أن سائقي تلك المركبات مستوفيةً لشروط الترخيص والتأمين، في حين أنها قد لا تكون كذلك، أو حتى قد يجلس خلف مِقودها فتىً لا يحمل رخصة قيادة، لذا فإن مالك سيارةٍ مماثلة يفوق ثمنها 70 ألف دولار يُغافل تلك الشروط ويُخالف القانون كمن يقود سيارة (سوبارو) مهترئة" يقول عبيد.
إلا أن دوام الحال من المُحال، كما يرى "همّام م.س" الذي وصل بسيارته الـ "مرسيدس CLA" إلى أيدي عاملين في مغسلة تبعد نحو كم واحد عن مخيّم الشاطئ الفقير غرب المدينة.
"لا أذكر تحديدًا متى كانت آخر مرةٍ لامست سيارتي الماء والصابون.. أظن أن الجو كان صيفًا. لكن الأمر سيكون مختلفًا هذا المساء، فسأرافق عروسي الجديدة لنتناول العشاء في مطعمٍ تُحبّه هي، وذلك لن يكتمل إلا بسيارةٍ ملمّعة" قال همّام ذلك ثم أنشد مديحًا شاميًا قديمًا، يبدو أنه كان يعني كلتا زوجتيْه، قائلاً:
سناسِل سناسِل سناسل ذَهب
سافر المعلم عَ سكة حلب
جاب للجديدة أساور ذهب
وجاب للعتيقة أساور خشب
اقرأ/ي أيضًا: