"كأن روحي عادت إلى جسدي"، هكذا يصف يوسف أبو ربيع (24 عامًا) عودته لأرضه الزراعية في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، واستصلاح مساحات منها، رغم ما لحق بها من دمار خلال الاجتياح الإسرائيلي البري في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.
بدأت حكاية الصمود بالزراعة، كما يقول يوسف أبو ربيع، بإعادة تدوير محصول أصابه الجفاف، كان نواة لتأسيس "مشتل صغير" وإنتاج أشتال من الفلفل والباذنجان
يوسف أبو ربيع، مهندسٌ زراعيٌ ينحدر من أسرة مزارعة، ويدرك أن العودة للزراعة مع الحرب المستمرة هي "مجازفة كبيرة"، وقد يكون ثمنها حياته، لكنه يقول لـ الترا فلسطين: "ليس لنا من سبيل لمقاومة المجاعة في شمال قطاع غزة إلا بالزراعة والاعتماد على أنفسنا".
وتفرض قوات الاحتلال عزلة خانقة على مئات آلاف الفلسطينيين في مدينة غزة وشمال القطاع، وتحرمهم من سبل الحياة كافة، وتمنع إيصال السلع والبضائع، والمساعدات الإنسانية إليهم، وتستخدم التجويع والتعطيش كسلاح من أجل تهجيرهم وإجبارهم على النزوح جنوبًا.
وطوال شهور الحرب الماضية نزحت أسرة أبو ربيع (8 أفراد) من مكان إلى آخر داخل مدينة غزة ومناطق شمال القطاع، وترفض بشدة النزوح نحو جنوب القطاع، ويقول يوسف: "ما في مكان آمن بكل قطاع غزة، وإذا ربنا كاتب لنا الموت فلتكن شهادة في أراضينا وندفن هنا".
مقاومة المجاعة بالزراعة
وفي سبيل البقاء في أراضيها، تبذل أسرة أبو ربيع جهودًا تساعدها على الصمود، وكانت العودة للزراعة أهم مقومات هذا الصمود "وقد نجحنا رغم التحديات الكثيرة"، بحسب وصف يوسف، ويضيف "لم تكن مهمة سهلة، عندما عدنا إلى هنا كان الدمار في كل مكان ولا أثر لمقومات الحياة".
وبدأت حكاية الصمود بالزراعة، كما يقول يوسف أبو ربيع، بإعادة تدوير محصول أصابه الجفاف، كان نواة لتأسيس "مشتل صغير" وإنتاج أشتال من الفلفل والباذنجان. ومع شعوره بالفخر عما يحققه من إنجاز خلال الشهور القليلة الماضية، تنتاب يوسف أبو ربيع مخاوف من الاستهداف الإسرائيلي، أو إجباره وأسرته على الرحيل، وتجريف أراضيهم الزراعية، وبرأيه فإن الشعور بالخوف وعدم الاستقرار يتعارض مع الزراعة، "ولكن لا بديل أمامنا سوى الزراعة للنجاة من المجاعة ومحرقة الحرب".
وتتجاوز مساحة الأراضي الزراعية التي ساهم يوسف وأسرته في استصلاحها وإعادة زراعتها من جديد 200 دونم، أي حوالي 200 ألف متر مربع. وبكثير من الحماسة يتحدث عن استجابة كبيرة من المزارعين للعودة إلى أراضيهم الزراعية رغم ما لحق بها من دمار، ويضرب المثل بمزارع وأبنائه دفنوا بأيديهم ثلاث حفر عميقة أحدثتها صواريخ مقاتلة إسرائيلية داخل أرضهم وأعادوا زراعتها.
وتقدر منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أن الحرب الإسرائيلية تسببت في تدمير حوالي 57% من المساحة الإجمالية للأراضي الزراعية في قطاع غزة، وأكثر من ثلث الدفيئات الزراعية.
وتتركز المساحة الأكبر من المساحات الزراعية في المناطق المحاذية للسياج الأمني الإسرائيلي في شرق القطاع وشماله، ويتعذر على المزارعين الوصول لأراضيهم في تلك المناطق منذ اندلاع الحرب لخطورتها، إضافة إلى الاستهداف المباشر لمساحات أخرى بالقصف والتجريف.
ويعتقد يوسف أبو ربيع، أن مساعي العودة للزراعة واستصلاح الأراضي الزراعية في شمال القطاع لو استمرت واتسعت يمكنها أن تغطي ما لا يقل عن 50% من الاحتياجات، إلا أنه يلفت النظر إلى التكاليف الباهظة للزراعة، حيث الصعوبة بالغة في الوصول للمياه، وعدم توفر البذور والأشتال والأسمدة.
الزراعة المنزلية
وإضافة إلى استصلاح الأراضي الزراعية، تساهم المبادرات الفردية للزراعة المنزلية في جهود مقاومة المجاعة المستشرية في شمال القطاع. ويقدر يوسف أبو ربيع أن أكثر من 300 أسرة خاضت تجربة الزراعة المنزلية، غالبيتها ليس لديها أي خبرات أو تجارب زراعية سابقة، لكنها تُقبل بحماس كبير على الزراعة كوسيلة من أجل البقاء على قيد الحياة.
رجب البرعي، من سكان منطقة تل الزعتر في جباليا شمال القطاع، خاض تجربة الزراعة المنزلية، والدافع وراء ذلك حسب قوله لـ "الترا فلسطين": "بدنا نأكل ونشرب، والله متنا من الجوع والعطش".
تمسّك رجب البرعي وعائلته المكونة من 8 أسر (30 فردًا) بالبقاء في منزلهم ورفضوا النزوح لجنوب القطاع، ورغم نجاته من الموت غير مرة بصواريخ الاحتلال وقذائفه، إلّا أنّه غير نادم على قرار البقاء في الشمال.
وفي ذروة المجاعة في شهر شباط/فبراير الماضي، رافق رجب البرعي شبانًا في رحلة قاتلة للبحث عن طعام في الأراضي الزراعية المتاخمة لمعبر بيت حانون (إيريز) شمال القطاع، وعلى إثرها استشهد اثنان منهم، وأصيب الآخرون بجراح، وكان نصيب رجب 14 شظية اخترقت أنحاء جسده.
وبدافع من قرصات الجوع وخشية مخاطر البحث عن غذاء في الأراضي الزراعية، وجد رجب البرعي في الرصيف أمام منزله مساحة يمكن استغلالها في زراعة محاصيل زراعية بسيطة، يقول إنها "قليلة وفي مساحة صغيرة، ولكن القليل أفضل من الشعور بالجوع والعجز".
لم يسبق لرجب البرعي وأولاده العمل بالزراعة قبل أن يقرروا زراعة الرصيف بعرض مترين وبطول 10 أمتار، وقد زرعها رجب ببذور وأشتال من الفول والطماطم والفلفل الأخضر والفراولة والفجل والبصل والملوخية.
ويكافح رجب وأسرته من أجل توفير المياه لري هذه المساحة الزراعية الصغيرة، وللشرب والاستخدامات المنزلية الأخرى، معتمدًا على بئر تقع على مسافة 100 متر، يشغله صاحبه على الطاقة الشمسية، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي كليًا منذ اندلاع الحرب، ونفاد الوقود.
"لن نستسلم للجوع" يقولها رجب البرعي، الذي خسر أكثر من 10 كغم من وزنه بسبب الجوع، ويفخر بتجربتهم في الزراعة المنزلية، التي أثارت إعجاب جيران لهم بالمنطقة، وقاموا بتقليد الفكرة وتنفيذها بحثًا عن سبل النجاة من المجاعة.
المجاعة قائمة
ويقدر الناطق باسم وزارة الزراعة في غزة، محمد أبو عودة، أن نحو 500 دونم تم استصلاحها في شمال القطاع في الفترة الأخيرة وزراعتها بالخضروات، إضافة إلى مساحات من الأراضي المزروعة بأشجار الفواكه وحافظ المزارعون عليها.
نحو 500 دونم تم استصلاحها في شمال القطاع في الفترة الأخيرة وزراعتها بالخضروات، إضافة إلى مساحات من الأراضي المزروعة بأشجار الفواكه وحافظ المزارعون عليها
وهذه المساحات، بحسب حديث محمد أبو عودة لـ "الترا فلسطين"، هي التي توفر الكميات الشحيحة من الخضروات والفواكه في الأسواق، وبأسعار باهظة وجودة متدنية، بسبب الظروف غير المثالية في عمليات الإنتاج الزراعي، "فمثلاً كغم الفلفل الأخضر يصل ثمنه 400 شيكل (حوالي 110 دولار)، وكغم الباذنجان يباع بنحو 80 شيكلاً (حوالي 22 دولارًا)".
ويشير محمد أبو عودة إلى مبادرات شبابية أو شخصية تقف غالبًا وراء عمليات استصلاح الأراضي الزراعية في شمال القطاع، وبدعم مؤسسات لإعادة عجلة الإنتاج الزراعي، إضافة إلى جهود فردية بالزراعة المنزلية، غير أنه يرى أن المساحات لا يمكنها مواجهة المجاعة وتوقف انتشارها ومخاطرها حتى هذه اللحظة، ولا يزال الخطر محدقًا بالغزيين في شمال القطاع.