لا يوجد ما نأكله الآن. في الشّتاء كنّا نقتات على بعض ما تُنبته الأرض من خُبّيزة وقرّيص. الآن بات كل شيء شحيحًا، وإن توفّر فأسعاره خياليّة، بالكاد نتحايل على أمعائنا ببعض أوراق التوت. ثم إنه من أين لنا بالنقود لندفع مقابل بعض السلع؟ بعد أن توقفت أعمالنا منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر.
بعد المجاعة الأولى التي ضربت شمال قطاع غزة في الأشهر السّتة الأولى من الحرب، عاد شبح المجاعة مجددًا بشكل أكثر قسوة، مع إغلاق معبر رفح، وتقنين دخول المساعدات من بقيّة المعابر
تقول نبيلة القطّاع لـ "الترا فلسطين" إنّ الوضع الغذائي "كارثيّ"، فلا تتوفر أي خضروات أو لحوم في الأسواق، حتى وإن كانت مجمّدة. أما الفواكه فبالكاد رأيناها منذ بداية الحرب، وحتى البقوليات، والسكر، والملح فأسعارها خيالية إن توفرت، ولا تستطيع العائلات توفيرها.
وعاد شبح المجاعة مجددًا، وبشكل أكثر ضراوة هذه المرّة على سكّان قطاع غزة وشماله تحديدًا. فبعد أن أغلق الاحتلال معبر رفح، وضيّق دخول البضائع والشاحنات من بقيّة المعابر، عاد الجوع لينهش أجساد الغزيين وأطفالهم. يقول مكتب الإعلامي الحكومي في أحدث معطياته المنشورة إن 34 استشهدوا نتيجة المجاعة.
نبيلة (58 عامًا) التي تعيش في منطقة التفاح، تقول إنّه لا يوجد عمل، ولا سيولة، والقوة الشرائية في الشمال معدومة تمامًا، حيث دخلت البضائع المختلفة إلى الأسواق مدة 10 أيام فقط و"لم نستطع شراءها بسبب ارتفاع أسعارها"، وقد كنّا نتأمّل دخول المزيد من البضائع بأسعار منخفضة، وتفاجأنا باختفائها ودخولنا في المجاعة مجددًا.
في الشتاء، تقول نبيلة الأم لستة أبناء، إنهم كانوا يعتمدون على ما ينبته المطر، مثل "الخبيزة، والقريص، والحماصيص"، أما في الصيف، فيعتمدون على ورق التوت كبديل عن ورق العنب، وحتى هذا أصبح نادرًا. تقول إنهم يطبخون الصلصة على نار الحطب، ويتناولونها بالخبز كبديل عن البندورة، أو يصنعون منها المعجنات بالدقة والزعتر واللحم المعلّب.
هذا الحال من قلّة الطعام، عبّرت عنه الأمم المتحدة بـ "انعدام الأمن الغذائي"، وقالت عنه نبيلة إنه جعل الأطفال يشعرون بالجوع أغلب الوقت، أما الكبار فيشعرون بالهزل والتعب والإرهاق وعدم القدرة على ممارسة أنشطتهم الحياتية.
وتشير إلى أن الأمر لا يقتصر على الشعور بالجوع فقط، فمن يمرض يبقى طريح الفراش لفترة طويلة، فلا أغذية تساعد على الشفاء، ولا أطعمة صحية، ولا أدوية، ما يجعل الوضع الصحي والنفسي والمعيشي من سيّء إلى أسوأ. وقالت إن ذلك "شكل من أشكال من التعذيب اليوميّ، فنحن نعاني من القصف والنزوح والفقد، حاليًا نُعاقب بأمعائنا، ونتمنى إدخال البضائع والخضروات والدواجن".
شبح المجاعة يكبُر
مكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة، يؤكدّ في بياناته المتتالية أن شبح المجاعة "يكبر يومًا بعد يوم"، ما يُنذر بارتفاع أعداد الوفيات، خصوصًا وأن نحو 3500 طفل مُعرّضون للموت لسوء التغذية وانعدام الغذاء، والمكملات الغذائية والتطعيمات.
ووفق تقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC)، فإنّ أكثر من نصف سكان غزة ليس لديهم طعام مخزّن، وأكثر من 20 في المئة من الناس يقضون أيامًا دون طعام.
الصحافي مؤمن مقداد، من غرب غزة، أبٌ لأربعة أطفال، ويعيش في منزل يضم 40 شخصًا، يؤكد أن الوضع في الشمال "صعب للغاية"، ويقول إنّ الأسواق من الخضراوات والفواكه واللحوم. ويشير إلى أنهم يعتمدون على المساعدات التي تأتي من المؤسسات، رغم أنّهم يضطرون لشرائها بأسعار مرتفعة.
ويبيّن أن أغلب الوجبات حاليًا تقتصر على الخبز والزعتر والدقة، وهذه أطعمة خالية من الخضروات والفواكه واللحوم، لذلك يعاني أغلب السّكان من الإمساك والهزال.
يقول مؤمن مقداد إن التحدي الأكبر الذي يواجههم هو "غياب الغاز بشكل نهائي"، لذا فإنهم يمكثون لساعات خلال النهار في جمع الحطب لإشعال النار.
خطر المجاعة المرتفع، عبّرت عنه وزارة الصحة حين أشارت في أحد بياناتها إلى تسمم أكثر من 60 نازحًا في مركز إيواء ببيت لاهيا شمالي القطاع، حين تعرّضوا لتسمم غذائي، بعد تناولهم أغذية منتهية الصلاحية، وفاسدة.
وأرجعت لجنة الطوارئ سبب تلف الأغذية إلى انتظار شاحنات المساعدات التي تحمل بداخلها معلّبات لفترات طويلة تحت أشعة الشمس، ما أدى إلى فسادها.
هذا الأمر دفع فاطمة الداعمة (37 عامًا) من سكان جباليا البلد شمالي مدينة غزة، وتسكن مع عائلتها المكونة من 25 فردًا، إلى فحص المعلبات قبل استخدامها.
تقول فاطمة إن المشكلة الأبرز أنهم يعانون من سوء التغذية منذ 9 أشهر، بسبب اعتماد غذائهم على "المعلبات المليئة بالمواد الحافظة، وغياب الخضروات والفواكه واللحوم"، ما جعل "الكسل والخمول" سمة بارزة عليهم هذه الأيام، مع آلام في العظام. وتتساءل: "أنا أحسّ بكل هذه الأوجاع وأنا في سن الشباب، فكيف حال كبار السن والأطفال والحوامل؟".
وبحسب تقارير أصدرتها منظمة "اليونيسف"، فإن واحدًا من كل ثلاثة أطفال في شمال غزة يعانون من "سوء التغذية الحاد أو الهزال".
وتضطر عائلة فاطمة إلى تناول الخبز دون طعام بجانبه في أغلب الأوقات، وتوضح: "نأكل بعض المعلبات، ونستخدمهم على فترات، بالإضافة إلى عشب البقلة، وورق التوت، وهذا الأمر مكلف أيضًا والحصول عليه فيه خطورة".
ويُطْلق محمد أبو وردة، رئيس غرفة تجارة وصناعة محافظة شمال غزة، صرخة تعبّر عن صعوبة الحال، بالقول: "لا يدخل إلى شمال قطاع غزة إلا المعلبات والطحين، وذلك عبر بعض المؤسسات الدولية، وبكميات قليلة لا تكفي عدد السكان"، وهنا المشكلة "لا يتم إدخال أي بضائع إلى هذه المنطقة، سواء عبر معابر القطاع أو من جنوب القطاع عبر التجار".
ويضيف أن الأسواق خالية من الخضروات والفواكه واللحوم، والأطعمة الخاصة بالأطفال، وكل الاحتياجات الأساسية مفقودة، وما هو متوفّر أسعاره فلكية.
وتعترف إيناس حمدان مديرة الإعلام بوكالة الأونروا في غزة أن "الحاجات ضخمة ومهولة، ولا يمكن حصرها بأي كلمات، وما لم يتم إدخال كميات منتظمة وكافية من الإمدادات الإغاثية فان القطاع قد يدخل حاله من الجوع في منتصف تموز/ يوليو الجاري".
وقالت إن ظروف المساعدات معقّدة جدًا، وهناك محددات كثيرة، والطرق والمنافذ البريه بالكاد يدخل منها شيء.
وعن وضع شمال القطاع، أكدت حمدان أن "الأونروا غير مسموح لها بالعمل بشكل فعّال في مناطق الشمال، وأن منظمة الغذاء العالمي هي من تشرف على إدخال المساعدات، وبالتنسيق مع الأونروا يتم توزيع الطحين فقط في مراكز توزيع تابعة للوكالة".
الأمور كارثية في مناطق غزة والشمال، وكل منظمات الأمم المتحدة وعلى رأسها أونروا تحذّر من عواقب النقص الحاد في المواد الغذائية، وارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي
وعادت حمدان للتحذير من أنّ "نقص الإمدادات وانهيار القانون والنظام في قطاع غزة، سيؤدي إلى تقويض تقديم المساعدات للسكان".
من جانبه، يرى رائد النمس، مدير إعلام الهلال الأحمر أن "الوضع الإنساني في قطاع غزة يزداد سوءًا، وأن المجاعة قد تمتد إلى كافة محافظات القطاع، وليس فقط الشمال".
وقال إن سبب ذلك منع دخول المساعدات بعد إغلاق معبر رفح البري منذ سيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليه واستهداف العاملين في البرامج الإغاثية بشكل متكرر.
ونوّه إلى أنّ "استمرار العدوان على نفس المنوال" سيُعمّق الأزمة الإنسانية. وأبدى تخوّفًا من الدخول بمجاعة جديدة تضرب كل محافظات قطاع غزة.
وأشار إلى أن الهلال الأحمر أبلغ الصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية بعدم توفّر الغذاء والأدوية ومياه الشرب للمواطنين شمال غزة، ما يتطلّب من هذه المنظمات "التصرف بشكل عاجل".
وذكر النمس أن "الهلال الأحمر كان يتلقى المساعدات ويشرف على توزيعها على اللاجئين داخل المراكز والمستشفيات، واليوم لا يدخل أي مساعدات".
وقد حاول الهلال الأحمر كسر الحصار من خلال تجهيز شاحنات بمختلف الأصناف وإرسالها إلى مناطق مدينة غزة وشمالها، غير أن قوات الاحتلال منعت دخولها.
وبحسب متابعة الإعلام الحكومي فلم يدخل خلال 10 أيام متتاليات سوى 9 شاحنات مساعدات، وأغلبها طحين ومعلبات.
وفي السابع من أيار/ مايو الماضي، احتل جيش الاحتلال الإسرائيلي معبر رفح البري، ومنع دخول المساعدات، بعد يوم من إعلان بدء عدوان عسكري على مدينة رفح، وسط تجاهل إسرائيلي لتحذيرات دولية بشأن تداعيات ذلك.
"لم أجد حتى أعلاف الحيوانات لطحنها وأكلها".
مواطن من #غزة يتحدث عن حجم المجاعة في القطاع في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر. pic.twitter.com/gf2kz2vnzj
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) February 23, 2024