"ضياء هو أبو الأسرى كلهم ومحبوب بينهم، ما أن يُعتقل أسير جديد حتى يثقفه ويهتم به ويعطيه مصروفًا ليساعده، عاش بين الأسرى أكثر مما عاش بيننا"، تقول نجاة الفالوجي والدة الأسير ضياء زكريا فالوجي الآغا (43 عامًا) من مدينة خانيونس في قطاع غزة، المعتقل في سجون الاحتلال منذ 27 سنة.
خلال الانتفاضة الأولى، وتحديدًا في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1992 كتبت الصحف العربية والعبرية عن فتى من مدينة خانيونس يبلغ من العمر (16 عامًا)، نفذ عملية بواسطة معول في مستوطنة "غوش قطيف" التي كانت مقامة على أراضي خانيونس، أدت إلى مقتل ضابط إسرائيلي كبير تبيّن لاحقًا أنه شارك في عملية اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، وبتفجير 19 طائرة في مطار بيروت.
الطفل صار رجلًا
تستذكر والدة ضياء ذلك اليوم قائلة إنها رأته بعد أن عاد إلى المنزل وغيّر ملابسه وغسل يديه ووقف بجانبها وقال، "يمّا سامحيني"، تخبرنا أنها لم تكن تعلم سبب كلامه هذا إلا أن حنيّته وعطفه المعتاد جعلها لا تشك بشيء، "وبعدها طلع من عندي واعتقلوه ومن وقتها ما عاود رجع علي".
"ظل 9 أشهر في غرف التحقيق وبالعزل الانفرادي في معتقل للأسيرات لأنه لم يكن هناك سجن للأشبال، ولأنه أصغر من أن يُحكم بالسجن مدى الحياة انتظروا حتى أتم 17 عامًا وحكموه بالسجن 99 سنة (..) دخل ضياء طفل صغير وها هو الآن صار رجلًا"، تقول والدته نجاة.
ضياء كان في الصف التاسع عند تنفيذه العملية، وكان محبوبًا للناس ومعروف بوطنيته ومقاومته للاحتلال، وتخبرنا والدته "كان يكتب ع الحيطان حتى صار خطّه معروفًا للناس، ويرمي حجارة على الجنود بمجرد أن يمروا من الشارع"، مضيفةً، أن الناس كانوا بمجرد سماع صوت طلقات رصاص الاحتلال في المنطقة يقولون، "ورب الكعبة ما عملها إلا ضياء".
"كنت دايمًا أسمع قصص عن شجاعته، كيف كان يهرب من الجيش وكيف نفد من فوق الجامع (..) من خوفي يصير معه حاجة كنت أظل أزعق عليه، يا ريت ما زعقت ويا ريت ما عمري زعلت منه، بس كان ابني عزام أسير وكنت أعرف معنى الاعتقال والبعد وكنت أظل قلقانة على أولادي وخصوصًا ضياء"، تقول نجاة.
وتحدثنا عن موقف لا تنساه لضياء في طفولته حين كانت تسير في الشارع برفقة أطفالها فظهر أمامهم كلب، ورغم أن ضياء كان أصغرهم سنًا إلا أنه أمسك حجرًا وبدأ يلاحق الكلب، "يومها عرفت أن ابني بطل، وعرفت أنه شخصيته قوية ومميزة بين أخوته".
في هذه الأيام بعد أن عاش ضياء في السجن ضعف ما عاش خارجه، أنهى دراسته الجامعية من جامعة القدس المفتوحة في تخصص التاريخ، كما أنهى سابقًا الثانوية العامة 3 مرات، يهتم بتعليمه ودراسته ولا يفوّت دورة تعليمية أو ورشة تدريبية في السجن إلا ويتقدّم لها ليحاول إلهاء نفسه بالدراسة والعلم، وفقًا لوالدته.
زيارة ضياء بين قلق وفرح
الأم التي لم ترافق ابنها في تفاصيل حياته منذ كان فتىً صغيرًا ترى زيارته تعادل كل ما في الدنيا من سعادة، تقول والدة ضياء إنها الوحيدة التي تزوره من العائلة بعد وفاة والده، أحيانًا تزوره مرة في السنة وأحيانًا أخرى مرتين، تستذكر السنوات الطويلة التي عاشتها دون رؤيته بسبب المنع الأمني على أهالي قطاع غزة مضيفة، "الحمدلله المهم أشوفه".
"طول الوقت بظل قلقانة انهم ما يسمحوا لي أزور، بس أقدم التصريح بظل أصلي وأدعي حتى يتصلوا يخبروني انه في زيارة، لو تشوفوا الفرحة الي بفرحها، كيف الناس تفرح بزيارة الكعبة أنا بفرح مثلهم بزيارة ابني، وأزوّد من هيك والله يمّا"، تقول أم ضياء.
هذه الأيام تناشد أم ضياء المؤسسات الدولية والصليب الأحمر للضغط على الاحتلال للسماح لعائلات الأسرى بإدخال الأغطية والملابس الشتوية لهم، وتضيف، "حرام ضياء الي بتغطى فيه عنده من 4 سنين، والدنيا سقعة وبعد ما يصير الحرام قديم ببطل يدفيهم، يا ريت يسمحولنا".
ورغم أن الاحتلال لا يسمح لعائلة ضياء بإدخال الملابس له بشكل دائم، إلا أن الأسرى الذين أفرج عنهم نقلوا لعائلته عنه أنه عندما يخرج أسير من السجن يذهب ضياء إليه ويعطيه ملابسه الجيدة ليقابل بها عائلته، ويصر عليه بأن يلبسها لحظة خروجه، "كل الأسرى بس تطلع تتصل تحكي ضياء هو أبونا، أبو الأسرى كلهم"، تقول والدته.
أقرب أخوته إليه من عاش معه في السجن
رغم أن ضياء لم يعش مع أخوته وأخواته كثيرًا إلا أنه يحبهم ويخاف عليهم ويهتم بأخبارهم ويحفظ أسماء أولادهم الذين تجاوز عددهم سنوات اعتقاله، حتى أنه دائم السؤال عن أصحابه ورفاقه في الحي والمدرسة ولا زال يهتم بمعرفة أخبارهم ويرسل لهم المباركات عند حصول أحدهم على مولود أو حتى زفاف أحد أولادهم.
وتربط ضياء بشقيقه محمد علاقة مختلفة، فهو الوحيد من إخوته الذي عاش معه فترة طويلة من حياته، فعندما اعتقل ضياء كان محمد طفلًا يبلغ من العمر 11 عامًا، إلا أن الاحتلال اعتقل محمد عام 2003، وظل معتقلًا 12 سنة عاش فيها مع ضياء أحيانًا في نفس الغرفة وأحيانًا في نفس القسم، فصارت العلاقة بينهم قوية جدًا.
وكانت لحظة انتهاء محكومية محمد عام 2015 من أصعب اللحظات التي عاشها ضياء خلال أسره، "أخبرني الأسرى أن ضياء ظل فترة طويلة بعد الإفراج عن محمد لا يستطيع تناول طعامه لأنه اعتاد أن يتشارك مع محمد فيه، وإلى الآن عندما أزوره؛ محمد هو أول من يسأل عنه"، تقول والدتهما نجاة.
حاولنا البحث عن صور لضياء قبل اعتقاله، إلا أن الصور القليلة الموجودة لضياء كلها التقطت خلال اعتقاله، والصور الوحيدة التي تجمعه بأفراد عائلته التقطت أيضًا في السجن، فكانت له صورة وهو يقبّل يد والدته نجاة وأخرى يحتضنها فيها وكأنها "طوق النجاة بالنسبة له".
أما الصور العائلية الأخرى فكانت 4 صور من داخل سجون الاحتلال تجمعه بشقيقه محمد، منها بعد اعتقال محمد وقبل الإفراج عنه بأيام، يتكئ في إحداها على كتفه وأخرى يحيطه بذراعه، يحتضنه في إحدى الصور، وفي صورة أخرى يجلس على كرسي وشقيقه الأصغر فوق رأسه يبتسم بفخر أمام الكاميرا.
ضياء وصفقات تبادل الأسرى
الأسير الفالوجي من بين 29 أسيرًا اعتقلهم الاحتلال قبل اتفاقية أوسلو، ورفض الإفراج عنهم بعد توقيعها، كما رفض الإفراج عنهم ثانية في إطار اتفاق مع السلطة الفلسطينية أبرمته حكومة نتنياهو، تضمَّن الإفراج عن جميع أسرى ما قبل اتفاق أوسلو مقابل استئناف المفاوضات، وهو الاتفاق الذي كان يُفترض تنفيذه على أربع دفعات، لكن الدفعة الرابعة أُلغيت من قبل حكومة الاحتلال.
خلال الدفعات السابقة، تجهزت والدة ضياء كبقية أمهات الأسرى لاستقباله، زيّنت الحي وأعدت له بيتًا كانت تنوي تزويجه فيه إلا أنه لم يخرج، تعلق قائلةً إن ضياء قتل ضابطًا كبيرًا، يُقال إنه أنقذ نتنياهو مرة من محاولة اغتيال لذلك كانوا يحقدون عليه، وقدموا شروطًا للسلطة الفلسطينية مقابل الإفراج عنه، إلا أن ضياء رفض ذلك قائلًا، "مستعد أظل طول عمري بالسجن ولا أطلع مقابل تنازلات من الشعب والسلطة".. وها هو للآن ينتظر"، تضيف نجاة.
ورغم ذلك لدى ضياء أمل دائم أنه سيخرج، ويجيب والدته عندما تسأله إن كان يشعر بالندم، "يمّا الله كتب لي أدخل السجن، والله بكتب لي أطلع منه، وإن شاء الله بطلع".. تضيف والدته، "وأنا دائمًا بقول، الي انسجن قبل ابني بيوم هو أولى وأحق من ابني بالخروج".
"جاي ع بالي جوافة"
تنقل والدة ضياء على لسانه أن أكثر ما يشتاق له الأسرى هم آباؤهم وأمهاتهم، لأنهم كبار في السن، ويظل الأسير خائفًا من أن يفقد أحدهم كما حدث مع ضياء ومحمد عندما فقدا والدهما خلال اعتقالهما سنة 2005.
تتذكر والدة ضياء، أن والده زكريا كان في الأيام الأخيرة من حياته ينسى كثيرًا، وأحيانًا كان ينسى أن له ابنًا أسيرًا اسمه ضياء لأنه عاش فترة طويلة دون زيارته وسنوات أطول من حياته بدونه، تقول نجاة إن والد ضياء كان يتذكر ابنه الأسير محمد ويدعو له وينسى ضياء قائلًا: "الله يفرج عنك يا محمد"، فتسأله عن ضياء فيتذكره، "آه صحيح وضياء..".
في هذه الأيام يشتاق ضياء لأكلة خبيزة مع عائلته، للملوخية الخضراء أو حتى السبانخ، مرة أخبر أمه أنه مشتاق لأكل الجوافة، "قال جاي ع بالي جوافة ما أكلتها من يوم اعتقلوني (..) نص الأكلات الي بنوكلها خارج السجن، ضياء ورفقاته محرومين منها".
وتنقل والدته قصة عنه أنه في إحدى المرات أدخلت سلطات الاحتلال خضراوات إلى السجن وكان بينها صندوقًا كُتب عليه اسم مزرعة موجودة في قطاع غزة، تقول إن الأسرى فرحوا جدًا بها لدرجة أنهم أخذوا الاسم وظل فترة طويلة معلقًا داخل القسم.
من سيعيد لضياء سنوات عمره التي عاشها في الأسر أكثر مما عاش خارجه؟ من سيعيد له الأيام والذكريات التي لم يعشها مع عائلته وأسرته؟ حقيبة المدرسة التي اهترأت بعد أن تركها 27 سنة، أصحابه الذين أصبحوا أباءً وأجدادًا ربما، أخوته وأخواته الذين عاش بعضهم معه 11 عامًا فقط، أمّه التي تتمنى احتضانه وزفّه إلى عروسه.
اقرأ/ي أيضًا:
الأسير فلنة.. شجرة شامخة في سجون الاحتلال