"يحمل جثة طفله، ابن الـ 11 عامًا، ويسير بها في شوارع مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، ينتقل من مقبرة إلى أخرى، فالمقابر كلها امتلأت تمامًا. يُشغل عن الحزن على فقدان طفله، في محاولة إيجاد مساحة فارغة من التراب، يستطيع أن يدفنه فيها، وحينما يجد تلك المساحة، يجبل ترابها بدمعه ودم طفله، ويكون شاهد القبر -على الأرجح- حجرٌ من منزل قُصِفَ فوق رؤوس ساكنيه". كان هذا أحد مشاهد متكررة في الحرب المستمرة على عموم قطاع غزة، والمناطق الوسطى منه.
لا تزال مخيمات المنطقة الوسطى، تعيش أحداث حرب الإبادة، وبشكل يومي تُستَهدفُ المنازل المأهولة وتجمعات المواطنين وسياراتٌ مدنية، ويستمر القصف المدفعي العشوائي والمكثف على مناطق كثيرة وسط القطاع
ولا تزال مخيمات المنطقة الوسطى، تعيش أحداث حرب الإبادة، وبشكل يومي يستهدف جيش الاحتلال المنازل المأهولة وتجمعات المواطنين وسيارات مدنية، ويستمر القصف المدفعي العشوائي والمكثف على مناطق واسعة هنا.
ويستقبل مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، ومستشفى العودة في مخيم النصيرات، يوميًا عشرات الشهداء والجرحى؛ جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل.
مدارس الموت
وطيلة عام، عمل الاحتلال على جعل المدارس، المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني، المكان الأكثر خطرًا على النازحين، فارتكب بها عشرات المجازر بقصفها في أثناء اكتظاظها بالأطفال والنساء، وعند اقتحامها بريًا كان يتخذها كمركز تعذيب وإعدام.
وارتكب جيش الاحتلال مجازر في معظم مدارس المنطقة الوسطى، وفي كافة مدارس مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.
ولا تزال الشابة تسنيم أحمد (21 عامًا) تستذكر قصف مدرسة أبو عريبان في مخيم النصيرات، يوم 15 تموز/يوليو 2024، الذي أفقدها البصر تمامًا، بينما ارتقى في ذات القصف 15 شهيدًا، وأصيب أكثر من 80 أغلبهم من الأطفال والنساء. تقول تسنيم أحمد، إن "آخر ما أبصرته عيناها هو مشهد قصف المدرسة".
وتروي تسنيم أحمد لـ "الترا فلسطين" تفاصيل ذلك اليوم قائلة: "حدث الانفجار الأول داخل أحد الصفوف المدرسية في ذات الطابق الذي نزحنا فيه، وعندما رفعت رأسي مقابل الشباك، حدث الانفجار الثاني، وكان أقوى، ووصل اللهب والشظايا لوجهي. لا أتذكر ما حصل بعدها".
بدأت تسنيم أحمد تستعيد وعيها في مستشفى شهداء الأقصى، وتقول: "كنت أسمع صوت أخي يناديني دون أن أراه، وكنت أشعر بالأضمدة على وجهي، وعندما قلت له ’آه محمود، وينك مش شايفاك؟ سمعت صوت أمي تنفجر بالبكاء، لم أستوعب حينها ما يعنيه بكاؤها، ولكني علمت أن السبب ربما هو إصابتي، وربما شكلي بعد الإصابة، ولم أتوقع أنني فقدت عيناي". تلقت تسنيم خبر فقدانها البصر تدريجيًا، وأدى ذلك إلى دخولها في حالة نفسية صعبة.
وتقول: "كنت طالبة رياضيات في الجامعة، وخلال نزوحنا في المدرسة، كنت أشتري الطباشير، وأشرح دروس كتاب الرياضيات للصفوف الإعدادية على السبورة بصوت منخفض للغاية، لكي لا أزعج أحدًا، وكنت أتخيل نفسي معلمة، ولكن الآن هذا الحلم تبدد، فقدان البصر هو أصعب ما قد يصيب الإنسان".
الرصاص في كل مكان
لا يكتفي جيش الاحتلال بالغارات الجوية التي يستهدف بها المدارس، والمنازل، فرغم انسحاب قواته من المناطق التي اجتاحتها وسط القطاع، إلا أن طائرات "الكواد كابتر" مازالت تنشط على مدار الساعة، وتطلق النيران عشوائيًا تجاه التجمعات والخيام.
يقول حسين الرميلات (39 عامًا)، إن إطلاق النار يصل إلى عمق مخيم البريج، وبشكل شبه يومي تتعرض منازل المواطنين لقصف مدفعي من شمال المخيم وشماله.
ويوضح حسين الرميلات في حديث لـ"الترا فلسطين"، أن الإسعاف ووحدات الدفاع المدني تحتاج إلى تنسيقٍ للوصول إلى شمال مخيم البريج، وفي حال حضورها في موقع القصف دون التنسيق تُسْتَهْدَف، وغالبًا يرفض الاحتلال منح التصريح للطواقم الطبية.
وأضاف: "قبل أيام قصفت قوات الاحتلال 4 منازل مأهولة بالسكان من جيراننا: أبو شوقة، والترتوري والبطران، في بلوك 12، من مخيم البريج، في مجزرة تجاوز عدد الشهداء فيها 40 شهيدًا، وبقي أكثرهم حتى اللحظة تحت الأنقاض، نتيجة منع الاحتلال لطواقم الإسعاف من الوصول وإطلاق النار من الكواد كابتر تجاه كل من يهب للمساعدة".
وتابع: "في الصباح وجدنا شهداء كانت إصاباتهم في الأطراف، ولا تبدو خطيرة، لكنهم نزفوا حتى الموت، دون أن يتمكن أحد من الاقتراب وإنقاذهم".
ويُبين حسين الرميلات، أن رصاص الاحتلال يصل إلى غرف نوم أطفاله، رغم أن موقع الغرف على الجانب الجنوبي من المنزل، وقد أدى ذلك لإصابة ابنته بالرصاص في الكتف في أثناء نومها، مضيفًا أنه حملها وجرى بها لأكثر من 200 متر، قبل أن يتمكن من العثور على سيارة تقلهما إلى مستشفى العودة في النصيرات.
دمار واسع
غيّر جيش الاحتلال ملامح المنطقة الوسطى بعد أن سوَّت طائراته وآلياته مجموعة من المناطق السكنية بشكل تام بالأرض، ودمر عشرات الآلاف من الوحدات السكنية. وركز الاحتلال غاراته على الأبراج الكبيرة التي تؤوي آلاف المواطنين، كما انتهج إلقاء قنابل ثقيلة على مربعات سكنية، بحيث تُدمر القنابل هذه المربعات السكنية بشكل كامل.
واحتلَّ جيش الاحتلال قرية جحر الديك والمغراقة ومدينة الزهراء، ودمرها بشكل كامل، ونشر جنود الاحتلال مقاطع مصورة في أثناء تفخيخ الجامعات الفلسطينية الموجودة في تلك المنطقة وتفجيرها، ضمن خطة تدمير البنية التحتية في القطاع.
وتسبب الدمار الهائل في البنية التحتية في تعطل خدمات الكهرباء والمياه، والصرف الصحي، ما تسبب بأزمة بيئية وصحية مستمرة.