"الكَذّاب خَرّب بيت الطمّاع" هذا مثل شعبي فلسطيني يُقال لوصف حالة من يدفعهم الطمع وأحلام الثراء لتصديق خُرافاتٍ وأكاذيبَ يختلقها البعض، ومن ذلك الظاهرة التي راجت في الآونة الأخيرة والهوس المُبالغ به في تناقل قصصٍ حول أعشاش الخفافيش النادرة التي يبلغ سعر أحدها 200 ألف دولار، حسب آخر ما سمعت به.
كانت الأمور بالنسبة لي مجرد كلام يتناقله الناس، حتى إذا حلّ بي ضيوف من القدس ذات مساء، وبدأ حديثهم الجدي عن دفع مبلغ 100 ألف دولار مقابل كل عُش. بذلت جهدي يومها لأقنعهم بعدم صحة الحديث، وأنني لم أشاهد عُشًا لخفاش طوال رحلاتي ومغامراتي، وأن الخفاش من الثدييات ولا يبني عُشًا ولا ينسج بيتًا، غير أن القوم لم يقتنعوا بالكلام وغادروا وهم يتهموني بأنني "مُش داير عَ رزقة مُحترمة".
الخفاش -فلسطينيًا- متهم بأنه رمز للسرية والجاسوسية، رغم ذلك فإن دماءه تُستخدم في "دهن" المواليد الإناث بزعم أنها تمنع ظهور الشعر على أجسادهن
فلسطينيًا يُتَّهم الخفاش بالبشاعة وأنه رمز للسرية والجاسوسية، فهو لا يطير إلا ليلاً أو عند بزوغ الفجر. ولأجل ذلك يوصف عُملاء الاحتلال وعيونه التي تتجس على الناس بأنهم "خفافيش ليل"، وهذه رمزية نجدها حاضرة أيضًا في الشعر، ومن ذلك قول الشاعر سميح قاسم:
الخفافيش على نافذتي
تمتصُ صوتي
الخفافيش وراء الصحف..
في بعض الزوايا
تتقصى خطواتي
والتفاتاتي
والخفافيش على المقعد
في الشارع خلفي...
الخفافيشُ على شرفة جاري
والخفافيش جهازٌ ما.. وخُبّىء في جدار
والخفافيشُ على وشك انتحار
إنني أحفر دربًا للنهار!
والخفاش من الطيور ذات الحياة الغامضة بالنسبة للناس، ولأجل ذلك يسهل خلق الخرافات حوله، فيقول المثل الشعبي "مثل الخفاش بنذكر وما بنشاف". وقديمًا كانت دماء الخفاش تؤخذ لأجل عملية "الوطوطة"، وهي عادة بدائية كانت سائدة ومعروفة في بلادنا، إذ يزعمون أن دهن جلد المولودة الأنثى قبل بلوغها الـ40 يومًا بدم الخفاش يمنع ظهور الشعر على جلدها. وسبق أن طلب مني أحدهم خفاشًا لأجل ذلك قبل عدة سنوات.
اقرأ/ي أيضًا: صور | مغارة النعسان.. "قبائل الجان" تحمي كنزًا أثريًا
وعلى الرغم من كُرْه الناس للخفافيش، إلا أنه يقال بأن لها فوائد من بينها أنها عدو للحشرات التي تطير ليلاً، وتقوم بتلقيح بعض النباتات والاشجار، وأنه يؤخذ من روثها سمادٌ غنيٌ بالنيتروجين يطلق عليه اسم "جوانو". وبحسب عالم الطبيعة الفلسطيني مازن قمصية، فإنه يوجد نحو 24 صنفًا من الخفافيش التي تم تسجيلها وتوثيقها في فلسطين.
أما ظاهرة البحث عن عُش الخفافيش فقد انتشرت في بعض الدول العربية منذ عدة سنوات قبل أن تغزو مناطق في فلسطين في الأشهر القليلة الماضية، فكثرت الاشاعات والأقاويل عن هذا العُش النادر التي تصنعه أنثى الخفاش حين تحيض، وأن مادة تتشكل فيه تُستخدم لأغراض طبية، وقيل لاستخراج مادة الزئبق الأحمر، والقول الأهم هو استخدامها للشعوذة وأعمال السحر.
شائعات تغزو فلسطين أن عش الخفاش يُستخدم لأغراض طبية، أو للشعوذة، وسعره يبلغ 100 ألف دولار
عِلميًا لا ذكر لهذا العُش ولا وجود وله، وما يتناقله الناس حول الاستخدام الطبي هو خلطٌ للحقائق بالخرافات، ذلك أن علماء غربيين يُحاولون أخذ عيناتٍ من لعاب الخفاش -مصاص الدماء- لصنع مصل لعلاج تجلط الدماغ. ومنبع الاعتقاد العلمي جاء من قدرة الخفاش على مص دماء ضحيته، مُستفيدًا من لعابة الذي يحافظ على تدفق دم الضحية دون تشكل جلطات، ولذا ربما يحتوي لعاب هذا النوع من الخفافيش مصاصة الدماء على مواد مضادة للتجلط، كما قد يحتوي على مُركَّباتٍ موسعةٍ لشرايين الجسم.
إذن، فإن الحديث العلمي يخص لعاب الخفاش لا غير.
والعُش المفترض الذي يتم البحث عنه وترويج صور له، عُش ذا شكل بيضوي، مصنوع من الطين، يكون مغلقًا ومعلقًا، وبداخله مادة لزجة حمراء. فإذا جربت وقدمت نحوه فَصًا من الثوم تحرك وتراقص، وهذه المادة التي تشغل بال الناس وتستهويهم ويعتقدون أنه من خلالها سيصلون لمرحلة الثراء والغنى الأبدي.
توالت الاتصالات عليّ كي أرشد المتصلين للخفافيش التي سبق ونشرت صورها على حسابي في "فيسبوك"، الأمر الذي جعلني آخذ قرارًا بأن أقوم بمغامرةٍ لأجل توثيق ذلك، وأن أقول للناس عن تجربة حقيقية بأن ما يبحثون عنه ليس إلا الوهم وخرافة يخدعهم بها أحدهم.
فجر الخامس عشر من تشرين ثاني/نوفمبر كانت سيارة الدفع الرباعي تنطلق بنا للمغامرة الأولى في الأغوار، يومها كان برفقتي ثلاثة رجال جديرون بمثل هذه المغامرة، وقد حملنا معنا ما قد نحتاجه من إنارةٍ وسلالمَ وحبالٍ ومعداتٍ تصلح لمطاردة الوهم في أعماق الكهوف.
كان علينا أن نختار عدة مناطق توجد فيها أنواعٌ مختلفةٌ من الخفافيش التي تعيش في فلسطين، ولذا كان علينا أن نطارد خفافيش الفاكهة التي تعيش في الكهوف القريبة من منطقة فصايل، والخفافيش الأصغر حجمًا، وهي أكثر من نوعٍ تختلف في حجم وشكل رأسها وموجودة في أكثر من مكان من تلك التي زرناها ودخلنا مُغرها وكهوفها.
في كهوف "خربة الداليا" يعيش آلاف الخفافيش من أنواع مختلفة أكبرها خفاش الفواكه
تحركنا لمنطقة "واد الداليا" في السفوح التي تطل على سهول منطقة فصايل والأغوار، وبعد عدة ساعات من السير في الجبال الوعرة وصلنا لمستوطنة الخفافيش الأكبر في فلسطين حسب تصوري، وهناك بدأنا عملية التفتيش داخل كهوف خربة الداليا الرئيسية: مغارة النعسان، مغارة أبو سنجة، كهف النسأنة، ثم انطلقنا نفتش في الكهوف الأصغر المحيطة بها على امتداد 3 كم.
يعيش في داخل هذه الكهوف آلاف الخفافيش من أنواع مُختلفة أكبرها خفاش الفواكه الذي يُماثل طيور الحمام في حجمة، وهناك ثلاثة إلى أربعة أنواع أصغر منها في الكهوف التي تنتشر في المنطقة، وقد نجحت هذه الخفافيش خلال سنوات طويلة في بناء مُستعمرتها لبُعدها عن الناس والتجمعات السكنية وصعوبة الوصل إليها، ولوجود ما يصلح لغذائها في سهول الأغوار المزرعة بالتمور والخضروات والفواكه المتنوعة.
اقرأ/ي أيضًا: عن قتلة العريس في يوم دخلته
في هذه الكهوف بدأت عملية التفتيش من قبل الفريق الذي نصب سلالمه وحباله وبدأ يُطارد الخفافيش داخل كهوفها، واستمرت عملية البحث لعدة ساعات، لكن النتيجة القاطعة كانت أنه لا أثر لشيء اسمه "عش الخفاش"، في واحدة من أكبر التجمعات التي تستوطن بها هذه الطيور.
أخيرًا وكي نقطع الشك باليقين، فإنه كان علينا أن نذهب لمغامرةٍ أخرى مع فريقٍ جديد، وأن تكون هذه المغامرة "إهواية المِكفي" كما يقول الفلاحون. ولذا ذهبنا هذه المرة بفريق أكبر، يدفعه الرغبة بالمغامرة لا أكثر، وقد اصطحبنا معنا دليلاً جديدًا لكهوفٍ سندخلها أوّل مرة كما قال، وأن هذه الخفافيش هي من النوع المسمى "مصاصة الدماء".
"عرقان البومة" كانت وجهتنا الجديدة ومغامرتنا الجدية في قلب الأغوار، وهنا لا مجال لأي خطأ، فالكهوف وعرة، والسراديب ضيقة ومتهدمة وحجارتها مُتفككة بفعل قذائف مدفعيات الاحتلال التي ضربتها في أواخر الستينات أثناء ملاحقة الفدائيين. لذا كان علينا أن ندخل فُرادى، يُمسك أحدنا بطرف الحبل المربوط على وسطه، ويظل واضعًا يده فوق رأسه تجنبًا لتلك الأحجار التي تُسقطها الخفافيش المذعورة التي تتقافز في أعلى السرداب خوفًا من الضوء الساطع. وفوق هذا كنا على حذر لما علمناه بأن عضة الخفاش قد تُسبب مرض الكَلَب (السُعار)، وأن هذه الخفافيش قد تكون ناقلة لأمراض عدة.
لا وجود لشيء اسمه عش الخفاش، هذا ما توصلنا إليه بعد أن بحثنا في كهوفٍ وسراديب -لم يصل لها أحدٌ قبلنا- تسكنها خفافيش من أنواع متعددة
كانت السراديب والتجاويف المُتشكلة بفعل تهدم الكهوف بِكرًا لم يدخلها أحدٌ من قبل، وقد جُن جنون الخفافيش وفقدت عقلها وصارت تتخبط بشكل جنوني، وبدأت الحجارة تتساق علينا كأن الخفافيش ترجمنا بها.
يومها جرى البحث بدقة مُبالغ فيها داخل هذه الكهوف على اعتبار أن أحدًا لم يسبق ودخلها خلال الـ50 سنة الماضية، غير أننا خرجنا آخر المطاف من هذه الكهوف كما في المغامرة السابقة ونحن على يقين بأنه لا وجود لشيء اسمه عيش الخفاش. بعد هذه المغامرات، والنتيجة التي وصلنا لها، بدأت البحث عن من يروج لمثل هذه الخرافات، ولماذا يدفع أحدهم 200 ألف دولار مقابل شيء لا وجود له.
مشعوذون يقفون خلف الترويج لخرافة عش الخفاش لأغراض تخص الجرائم التي يقومون بها
للأسف لم أصل لأبعد من إشارةٍ لتاجر من القدس يحوم حوله كُل المهوسون في الضفة، ويزعمون أن المادة المطلوبة لعالمٍ في الأحياء. أخيرًا وجدت فيديو يتم تناقله سرًا يحمل تاريخ تصويره الجديد. تتبعت الفيديو وسألت عددًا ممن شاهدوه، كلهم يزعم أنه في منطقته، والغريب أن ذات الفيديو نُسب لمنطقة نابلس ثم بيت لحم، والأعجب من ذلك أن ذات الفيديو جاء من إربد وجبال عجلون ثم سوريا.
أخيرًا يمكنني القول: لا الخفاش ولا عُشه المزعوم مطلوبان لأغراضٍ طبية، ولا وجود لمادة الزئبق الأحمر في عُش الخفاش، وبالتالي لا سبيل لأحلامهم بالذهب والثراء. إذن، لماذا يبحث البعض عن أعشاش الخفافيش؟ ولأجل ماذا يُدفع الناس لذلك من قبل رجال مجهولين؟ الشيء الوحيد الذي وصلت له هو تأكيد البعض أن المشعوذين والسحرة هم من يحتاجون للخفافيش، وتحديدًا الإناث التي تكون قد ولدت حديثًا، وأنه لا شيء اسمه "عُش إنثى الخفاش".
اقرأ/ي أيضًا: